الخميس، 13 سبتمبر 2018

تغدو خماصًا وتروح بطانًا




كان ذلك من عقدين أو يزيد، قبل موته وإصابته بخرف المشيب، كنا في حجرته المطلة على زاوية الصلاة بشارعنا الصغير، بصحبتي توفيق المهاجر إلى اﻷسفل الأسترالي البعيد منذ عقد ويزيد.
صبيًا كنت، لم أزل على بداية الطريق، سكة الحياة بين شقاوة الطفولة القريبة وأحلام الشباب اﻷبعد، الحيرة بين درب شيخي الأقرب للتدين الشعبي، ودروب السلفيين في المساجد القريبة من الحي، عباد الرحمن وأنصار السنة والجمعية الشرعية والعزيز بالله، وبين الدروب طريقة لم تستبن في وقتها، عرفتها في صلاة التسبيح كل خميس وقراءة تبارك بعدها، في حضرة مصغرة لم أتمها بسبب انحراف علم الظاهر والظواهر وزيغ القلب.
كان الحاج أحمد شيخًا كبيرًا كما يجب أن يكون الشيوخ الكبار، أصيب بداء اﻷلماني ألتسهايمر في السنين اللاحقة، كنت قد دخلت الجامعة وابتعدت عن الزاوية، كان ينتظر على محطة مترو مصر الجديدة الخشبية بالساعات تائها عن بيته وهو على بعد خطوات. وقتها لم يكن قد نسى بعد، كان على درب النسيان والموت.
كل مرة كنا ندخل غرفته الصغيرة كان يهدينا حلويات صنعت وعلبت في بلدته بالشرقية. كان يعيش وحده بعد هجرة ابنه وعودته إلى مصر بزوجة أجنبية، قصة معتادة في ثمانينيات طفولتي وتسعينيات صباي. كل أسبوع كان يحضر ابنه لزيارته بصحبة أولاده ثم يسافران لبلدته.
أكنا ربيعًا أم خريفًا، ﻻ أذكر لكنّا كنا بين الفصول، أذكر غلافًا ملونًا بجانب السرير رُسم عليه عصفور من فوقه كتابة، "لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا". لمحت عيناي الحديث الذي سمعته مرارًا في التلفزيون بعد الأذان. قرأت عنوان الكتاب الذي لم أكن سمعته من قبل، التنوير في إسقاط التدبير.
ذكرى عابرة مضت، غابت بعد موت الحاج أحمد وإصابته بالخرف، قبل وفاته اختصم المرحوم أخي في نظارته الطبية معتقدًا إنها نظارته، لا أذكر كيف مات، كنت وقتها في الجامعة، لم أصلِ عليه ولم أحضر جنازته ولا أعرف من سكن شقته بعد رحيله، لم أدخل غرفته مرة أخرى ولم أذق حلوياته ثانية لكن ظل عنوان الكتاب في ذهني. بعد سنوات قفز اسم مؤلفه إلى عقلي كما يقفز عفريت العلبة بلونه اﻷزرق، سيدي ابن عطاء الله السكندري.
لم أقرأ الكتاب بعد، رغم حبي لغلافه وعنوانه والحاج أحمد ونظارات أخي وطفولتي والحلويات الرخيصة. منذ أسبوعين توفت شقيقتي الكبرى، لحقت بالحاج وأخي. مرت اﻷيام بلا تدبير، سيرها ربها كغدو ورواح الطير. باﻷمس تذكرت عنوان الكتاب وغلافه والحاج أحمد ونظارات أخي ومحطة المترو وكنافة وبسبوسة وهريسة منيا القمح المغلفة في بلاستيك رديء. في الصباح رأيت الغلاف مرة أخرى في بحث الإنترنت بتاريخ نشر بعد حادثة ذاكرتي بعقد ونصف، هل عبرت الزمان يومها أم استنسخ الناشر غلافًا قديمًا أذكره وحدي دون غيري، كل ما أعرفه أن أيامي تمر بخفة الطير خماصًا وبطانًا، بلا تدبير وبنفحات تنوير.