الجمعة، 8 مارس 2019

تأملات حول السلطة والجسد


  1. ليس الجسد بجديد، إنه سابق على الوعي به وربما كان منتجه، لكن الوعي به وجمُاع الأفكار المرتبطة بذلك الجسد وغيره، بعلاقاته وتأويلاته وتحولاته وصيروراته المختلفة، بالجسد جمعًا وإفرادًا، ذلك الوعي محدث ومتطور، ومنشيء لأشياء كثيرة منها السلطة.
  2. السُلطة بمفهومها المحدث جديدة مقارنة بالجسد لا مقارنة بمفهومه، عمرها لا يتجاوز القرون الخمس وربما أقل، والجسد بمفهومه الأحدث مقارب لعمر مفهوم السلطة وربما كان ناتجًا عن نفس المسيرة العقلية، عصر النهضة والطب والمدينة والسياسة.
  3. لا تنشأ السلطة من عدم إنها في حاجة لفكرة/روح العالم بالمفهوم الهيغلي، من خلال تلك الفكرة تستولى على أجساد، استيلاء الأشباح والشياطين على أجساد البشر في العهد الجديد، السلطة تبدأ كفكرة مهيمنة تسعى وترفرف باحثة عن ناسوت تسكنه لتتجسد وتسيطر، من المثير أن الجملة الأولى في نص مؤسس لأيديولوجية مهمة من منشآت السلطة في القرن العشرين تقرأ في ترجمتها الحرفية " شبح Gespenst يسكن (جسد) أوروبا"، وربما حدس ماركس الهيغلي الشاب الوفي بعد لمعلمه الأول إن تلك الفكرة/الشبح لن تصير سلطة مهيمنة أو ديكتاتوريا البروليتاريا كما سماها دون استيلاء على أجساد مؤمنة بها.
  4. تتفاعل السلطة مع صورتين للجسد، الصورة الأولى هي الجسد في فضاءه العام أو الجسد بوصفه جمعي، والصورة الأخرى الجسد في فضاءه الخاص أو بوصفه مفرد، ويمكن تخيل السلطة في استيلائها على الأجساد في صورة التنين الصيني في الاحتفالات التقليدية بوصفها جسد جمعي لأجساد مفردة تحويها داخلها وتحكمها عن طريق فكرتها المهيمنة أو الشبح الذي يسكن الأجساد.
  5. يمكن تخيل الفكرة المهيمنة / الشبح الساكن الأجساد كالعقد الحر بين مصاص الدماء وضحيته المنتظرة، ففي الأساطير الشائعة لا يمكن لمصاص الدماء أن يُسكن فكرته المهيمنة داخل جسد ضحيته إلا بإتفاق يعقد بكامل الإرادة الحرة، مثل فاوست الذي يبيع روحه للشيطان، وبدون الفكرة المهيمنة / الأيديولوجية / القضية الكبرى لا يمكن إتمام هذا العقد، بدونه تصبح السلطة فكرة شبحية بلا أجساد تتملكها.
  6. الأيديولوجية ضرورة أولية للسلطة الحديثة فهي التي تحصل لها على جسد تعيش به، بدون أيديولوجية / قضية كبرى/ فكرة مهيمنة أو بعبارة أكثر بساطة بدون (الكلام الكبير) لا يمكن إيهام المنضوين تحت السلطة بوهب أجسادهم لتلك السلطة أو لهذا الحاكم، وحدها الأيديولوجية/القضية الكبرى/الوهم العام قادرة على إقناع المحكومين بإعطاء دمهم للحاكم الفامباير، القضية الكبرى تجعلهم يهتفون بحماس "بالروح والدم" لأن مصاص الدماء يحتاج دومًا إلى دم، ويحتاج إلى عقد وهمي لتعطه الضحية دمها بكامل إرادتها الحرة، بدون القضية الكبرى تصبح السلطة مصاص دماء بلا دماء، جثة بلا جسد حي.
  7. الأيديولوجية المثلى هي التي تعطي للجسد العام (السلطة) أجسادًا خاصة مكرسة له دائمًا، لكنها تمنح كذلك تلك الأجساد في فضائها الخاص سيطرة ما على غيرها، بهذه العلاقة الجدلية تستمر السلطة (الجسد في فضائه العام) في الحياة على الدماء التي تضخها فيها الأجساد الخاضعة لها وفي الوقت عينه تحيا تلك الأجساد في فضائها الخاص سلطتها الخاصة على أجساد أدنى منها، داخل التنين الكبير المكون من أجساد فردية يخضع كل جسد لمن هو أعلى منها ويخضع له من هو أدنى منها، لنتذكر كيف قدم الراوي نفسه في قصة خ.ل.بورخيس الرمزية (يانصيب في بابل) " مثل كل الناس في بابل، كنت حاكم مقاطعة، ومثل الكل، كنت عبدًا. وعرفت أيضًا السلطة المطلقة، والخزي، والسجن. انظر: إن سبابة يدي اليمنى مفقودة. انظر: من خلال فتحة عباءتي يمكنك أن ترى وشمًا قرمزيًا على بطني. إنه الحرف الثاني، "بيث". وهذا الحرف يمنحني، في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرًا، سلطة على الرجال الذين يحملون رمز حرف "جيميل"، لكنه يخضعني لرجال حرف "الألف"، الذين يدينون بالطاعة في الليالي غير المقمرة لأولئك الموسومين برمز حرف "جيميل "."، لنتذكر كذلك الحكمة العامية الشائعة عن تسليط الأبدان على الأبدان.
  8. ينظر غير المؤمن بالفكرة المهيمنة لتصرفات الجسد الجمعي (السلطة) بشيء من الريبة، ويبهره إيمان الأجساد الفرد بهيمنة الجسد الجمعي عليه، إن نظرات العجب تجاه الانتحاريين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية تشابه كثيرًا نظرات العجب للانتحاريين المسلمين في أواخر القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين، فالخارج عن عقل الجسد الجمعي لا يفهم كيف يهب الجسد الفردي نفسه بكل هذه الحماسة لمصاص دمائه.
  9. ثمة تقارب ما بين عقل السلطات العربية القائمة (الجسد العربي الجمعي) وبين الأيديولوجيات الفاشية الأوروبية وثمة إعجاب ما غير خفي، فالفاشية في صورتها الإيطالية تستعيد في عقل الجسد الجمعي العربي الحكاية التراثية عن حزمة الحطب التي لا يمكن كسرها، والنازية الألمانية تخاطب في عقل الجسد الجمعي العربي هوى ما، وحلمًا بالقائد القادر على تجميع كل هذه الأجساد على قلب رجل واحد، ولا يخلو هذه التشبيه من رمزية ما، فكل هذه الأجساد ستجتمع على القلب مضخة الدم لتفدي قائدها وزعيمها بالروح والدم، هنا لا يحل جسد الإله في المؤمنين به عن طريق تناول دمه وجسده، بل تحل أجساد المؤمنين بالزعيم في الزعيم عن طريق دمائهم التي تسيل في سبيله.
  10. من أجل خضوع كل تلك الأجساد لجسد القيادة كان يجب على النازية الألمانية مخاطبة الأجساد الأفراد بخطاب خاص يعلي من قدرهم على ما عاداهم، هنا تضطر السلطة بوصفها جسدًا جمعيًا في التسامح مع أجساد الأفراد بل ومنحهم أجساد أدنى منهم، وفي مشهد افتتاحي دال من رواية الثأر V for Vendetta يحكي آلان مور حكاية إيفي هاموند التي وقعت في أيدي رجال السلطة (الجسد الجمعي) الذين يخبرونها أن من حقهم توقيع عقوبة جسدية عليها بوصفها عاهرة، من حقهم استخدامها كجسد مفرد خاضع لهم بوصفهم جزء من الجسد الجمعي، إيفي هنا تتحول إلى جسد خاضع ويتحول الأفراد إلى جسد جمعي يمارس سلطته.
  11. تحت عين الجسد الجمعي ينحرف الجسد الفرد عن غايته المرتبة سلفًا من قبل سلطة مهيمنة / فكرة / روح / شبح، ينحرف هذا الجسد الفرد إلى غايته هو، وحريته هو، ويحظى التراث العربي بذخائر حكايات استطاعت الأجساد المفردة فيها الهروب والانتقام من الجسد الجمعي، جزء كبير من حكايات الف ليلة وليلة مبني على تلك الثنائية، فالحكاية المفتتح هي انتقام جسد فرد خاضع من الجسد الجمعي، فزوجة شهريار تخونه مع عبيده، بوصفها جسد فرد، بينما هو يستمتع بها بوصفه جسد جمعي لا فردًا، فهو السلطة والسلطان والملك، وهو قوام عليها كذلك بموجب الفكرة المهيمنة، من أجل ذلك يستمر قمع ألف ليلة وليلة من قبل حراس عقل الجسد الجمعي، ويستمر قمع استخدام ألفاظها بوصفها انتهاكًا للعقل العام والفكرة المهيمنة التي من خلالها تحصل السلطة على جسدها.
  12. عن طريق خُلُق السلطة ترث السلطة أجساد الخَلق الخاضعين لها وتخلق جسدًا لتستوِ خلقًا جديدًا.
  13. يرتبط انهيار الأيديولوجيات العامة والقضايا الكبرى الزائفة باستعادة ما للجسد الفرد، في باريس 68 تنهزم ثورة الطلاب لكن ينتصر تيار استعادة قيمة الجسد الفرد وتحرره، وفي أمريكا الستينات ترتبط حركة الحقوق المدنية بحركة مناهضة الحرب ورفض الانضواء تحت الجسد الجمعي، مع تحرر شامل للجسد الفرد فيما سمي بالثورة الجنسية، استعادة الجسد الفرد من هيمنة السلطة (الجسد الجمعي) يتيح كذلك انعتاق الجسد الفرد من أخلاقيات السلطة.
  14. بدون فكرة مهيمنة تتحول السلطة لجسد بلا عقل، وتفقد القدرة على إلحاق أجساد جديدة بها عن طريق التراضي فلا يبق سوى الإخضاع عن طريق القهر، قبل اندلاع الثورة العربية الدائرة كان هناك صورتان للأفكار المهيمنة، صورة موروثة عن أنظمة القضايا الكبرى والانقلابات في خمسينيات وستينات القرن العشرين، وصورة أخرى موروثة عن حقبة أقدم بكثير، عن حقبة ولي الأمر والإمام واللاهوت المتماهي مع الناسوت، وبعد سقوط وجوه ثلاثة أنظمة ستتنصر الصورة الثانية بلا منازع، بوصفها عقل الجسد الجمعي العربي القائم من خلاله تخضع الأجساد الفردية وتلتحق بالسلطة.
  15. عاشت وجوه الأنظمة العربية الساقطة مرحلة صعبة قبل رحيلها، فقدت خلالها أيديولوجيتها المهمينة وصارت جسدًا بلا روح، ومضت تبحث شبح يسكنها ليعيد لها الحيوية، من خلال ترقيعات مختلفة، لكنها لم تدرك أنها صارت جثة شهية cadavre exquis، انقضى زمنها ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
  16. في سنواتها الأخيرة ستصبح وجوه الأنظمة العربية الساقطة سلطات ضد جسدية، يصح عليها التعبير الصائب لأحمد بحار (دولة الزومبي)، وسينزل أتباعها حرفيًا باحثين عن أجساد يخضعونها بطريق القهر، الجسد الجمعي العام سيكون قد مات بصورة لا يصلح معها أي بعث، وردًا على ذلك سيطلق أجساده الأفراد ليتخطفوا أجساد آخرين ليهبوا له الحياة، سيصير المخبرين والعسس كلاب مسعورة بالمعنى الحرفي، في هذا السياق ستنتشر فيديوهات التعذيب وفي هذا السياق سيموت خالد سعيد.
  17. الشرارة التي أندلع منها لهيب الثورة العربية لا تخلو من دلالة، فهناك جسد فرد غير مقتنع بسيادة السلطة عليه، سيقمع هذا الجسد من خلال يد السلطة/ الجثة، ولن يملك ردًا على تلك اليد الباطشة سوى حرق جسده نفسه.
  18. الهتافات الأولى للثورة العربية هتافات جسدية بامتياز، "خبز وماء وبن علي لا"، هتافات أجساد فردية محرومة ضد جسد جمعي سقط عنه التبرير والأيديولوجية فصار جثة هامدة، سيحتاج الأمر بعض الوقت حتى تتحول تلك الهتافات إلى هتافات من جسد جمعي جديد ضد جثة قديمة، الهتاف الأشهر " الشعب يريد إسقاط النظام" هو هتاف في هذا السياق، فالشعب (الفكرة المهيمنة البديلة) يتكون من أجساد جمعية مؤمنة بتلك الفكرة / الروح / الشبح يثور وينتفض ضد الجثة القديمة التي لم تعد صالحة، في مصر سيكون الهتاف المصاحب هتافًا جسديًا كذلك، " عيش .. حرية"، ودون النظر إلى الحد الثالث الموضوع من قبل أيديولوجيات بديلة تسعى إلى فرض جسدها الجمعي وسلطتها، يكون الهتاف جسدي وفردي بإمتياز ناتج عن أفراد راغبين في استعادة حرية فضاء ما لجسدهم الفرد، وطعام يقيموا به أود نفس الجسد الفرد.
  19. قبل سقوطها استمرت وجوه الأنظمة العربية تحكم كجثة سليمان النبي الميت على عصاه، لكن تحت بصرها وسمعها كانت تتشكل أشباح أخرى تسكن الجسد الميت، الشبح الأكثر انتشارًا وهيمنة وليد أنظمة مجاورة لها، لكنه ليس الوحيد.
  20. في السنوات الأخيرة من عمر تلك الأنظمة وبجوار الفكرة الدينية المهيمنة، سينتج شبح آخر، مكون من أجساد أفراد تبحث عن ذوبان جمعي في جسد عام، مرة في صورة فرق غنائية وهي محاولة لم يكتب لها النجاح في منتصف التسعينات ومرة أخرى في صورة أندية رياضية وهي المحاولة التي استمرت وانتشرت، كعب أخيل هنا أن تلك المحاولة رغم كونها منحت حرية ما لأجساد أفرادها عن طريق إندماجهم في جسد عام، إلا أنها ظلت حاملة لعقل الجسد الميت المطل عليها.
* تأملات غير مكتملة كتبت في خريف وشتاء ١٣٩١ هجري شمسي الموافق ٢٠١٢ ميلادية.
** التنسيق باستخدام الخط اﻷميري.