الجمعة، 8 مارس 2019

تأملات حول السلطة والجسد


  1. ليس الجسد بجديد، إنه سابق على الوعي به وربما كان منتجه، لكن الوعي به وجمُاع الأفكار المرتبطة بذلك الجسد وغيره، بعلاقاته وتأويلاته وتحولاته وصيروراته المختلفة، بالجسد جمعًا وإفرادًا، ذلك الوعي محدث ومتطور، ومنشيء لأشياء كثيرة منها السلطة.
  2. السُلطة بمفهومها المحدث جديدة مقارنة بالجسد لا مقارنة بمفهومه، عمرها لا يتجاوز القرون الخمس وربما أقل، والجسد بمفهومه الأحدث مقارب لعمر مفهوم السلطة وربما كان ناتجًا عن نفس المسيرة العقلية، عصر النهضة والطب والمدينة والسياسة.
  3. لا تنشأ السلطة من عدم إنها في حاجة لفكرة/روح العالم بالمفهوم الهيغلي، من خلال تلك الفكرة تستولى على أجساد، استيلاء الأشباح والشياطين على أجساد البشر في العهد الجديد، السلطة تبدأ كفكرة مهيمنة تسعى وترفرف باحثة عن ناسوت تسكنه لتتجسد وتسيطر، من المثير أن الجملة الأولى في نص مؤسس لأيديولوجية مهمة من منشآت السلطة في القرن العشرين تقرأ في ترجمتها الحرفية " شبح Gespenst يسكن (جسد) أوروبا"، وربما حدس ماركس الهيغلي الشاب الوفي بعد لمعلمه الأول إن تلك الفكرة/الشبح لن تصير سلطة مهيمنة أو ديكتاتوريا البروليتاريا كما سماها دون استيلاء على أجساد مؤمنة بها.
  4. تتفاعل السلطة مع صورتين للجسد، الصورة الأولى هي الجسد في فضاءه العام أو الجسد بوصفه جمعي، والصورة الأخرى الجسد في فضاءه الخاص أو بوصفه مفرد، ويمكن تخيل السلطة في استيلائها على الأجساد في صورة التنين الصيني في الاحتفالات التقليدية بوصفها جسد جمعي لأجساد مفردة تحويها داخلها وتحكمها عن طريق فكرتها المهيمنة أو الشبح الذي يسكن الأجساد.
  5. يمكن تخيل الفكرة المهيمنة / الشبح الساكن الأجساد كالعقد الحر بين مصاص الدماء وضحيته المنتظرة، ففي الأساطير الشائعة لا يمكن لمصاص الدماء أن يُسكن فكرته المهيمنة داخل جسد ضحيته إلا بإتفاق يعقد بكامل الإرادة الحرة، مثل فاوست الذي يبيع روحه للشيطان، وبدون الفكرة المهيمنة / الأيديولوجية / القضية الكبرى لا يمكن إتمام هذا العقد، بدونه تصبح السلطة فكرة شبحية بلا أجساد تتملكها.
  6. الأيديولوجية ضرورة أولية للسلطة الحديثة فهي التي تحصل لها على جسد تعيش به، بدون أيديولوجية / قضية كبرى/ فكرة مهيمنة أو بعبارة أكثر بساطة بدون (الكلام الكبير) لا يمكن إيهام المنضوين تحت السلطة بوهب أجسادهم لتلك السلطة أو لهذا الحاكم، وحدها الأيديولوجية/القضية الكبرى/الوهم العام قادرة على إقناع المحكومين بإعطاء دمهم للحاكم الفامباير، القضية الكبرى تجعلهم يهتفون بحماس "بالروح والدم" لأن مصاص الدماء يحتاج دومًا إلى دم، ويحتاج إلى عقد وهمي لتعطه الضحية دمها بكامل إرادتها الحرة، بدون القضية الكبرى تصبح السلطة مصاص دماء بلا دماء، جثة بلا جسد حي.
  7. الأيديولوجية المثلى هي التي تعطي للجسد العام (السلطة) أجسادًا خاصة مكرسة له دائمًا، لكنها تمنح كذلك تلك الأجساد في فضائها الخاص سيطرة ما على غيرها، بهذه العلاقة الجدلية تستمر السلطة (الجسد في فضائه العام) في الحياة على الدماء التي تضخها فيها الأجساد الخاضعة لها وفي الوقت عينه تحيا تلك الأجساد في فضائها الخاص سلطتها الخاصة على أجساد أدنى منها، داخل التنين الكبير المكون من أجساد فردية يخضع كل جسد لمن هو أعلى منها ويخضع له من هو أدنى منها، لنتذكر كيف قدم الراوي نفسه في قصة خ.ل.بورخيس الرمزية (يانصيب في بابل) " مثل كل الناس في بابل، كنت حاكم مقاطعة، ومثل الكل، كنت عبدًا. وعرفت أيضًا السلطة المطلقة، والخزي، والسجن. انظر: إن سبابة يدي اليمنى مفقودة. انظر: من خلال فتحة عباءتي يمكنك أن ترى وشمًا قرمزيًا على بطني. إنه الحرف الثاني، "بيث". وهذا الحرف يمنحني، في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرًا، سلطة على الرجال الذين يحملون رمز حرف "جيميل"، لكنه يخضعني لرجال حرف "الألف"، الذين يدينون بالطاعة في الليالي غير المقمرة لأولئك الموسومين برمز حرف "جيميل "."، لنتذكر كذلك الحكمة العامية الشائعة عن تسليط الأبدان على الأبدان.
  8. ينظر غير المؤمن بالفكرة المهيمنة لتصرفات الجسد الجمعي (السلطة) بشيء من الريبة، ويبهره إيمان الأجساد الفرد بهيمنة الجسد الجمعي عليه، إن نظرات العجب تجاه الانتحاريين اليابانيين في الحرب العالمية الثانية تشابه كثيرًا نظرات العجب للانتحاريين المسلمين في أواخر القرن العشرين وبدايات الحادي والعشرين، فالخارج عن عقل الجسد الجمعي لا يفهم كيف يهب الجسد الفردي نفسه بكل هذه الحماسة لمصاص دمائه.
  9. ثمة تقارب ما بين عقل السلطات العربية القائمة (الجسد العربي الجمعي) وبين الأيديولوجيات الفاشية الأوروبية وثمة إعجاب ما غير خفي، فالفاشية في صورتها الإيطالية تستعيد في عقل الجسد الجمعي العربي الحكاية التراثية عن حزمة الحطب التي لا يمكن كسرها، والنازية الألمانية تخاطب في عقل الجسد الجمعي العربي هوى ما، وحلمًا بالقائد القادر على تجميع كل هذه الأجساد على قلب رجل واحد، ولا يخلو هذه التشبيه من رمزية ما، فكل هذه الأجساد ستجتمع على القلب مضخة الدم لتفدي قائدها وزعيمها بالروح والدم، هنا لا يحل جسد الإله في المؤمنين به عن طريق تناول دمه وجسده، بل تحل أجساد المؤمنين بالزعيم في الزعيم عن طريق دمائهم التي تسيل في سبيله.
  10. من أجل خضوع كل تلك الأجساد لجسد القيادة كان يجب على النازية الألمانية مخاطبة الأجساد الأفراد بخطاب خاص يعلي من قدرهم على ما عاداهم، هنا تضطر السلطة بوصفها جسدًا جمعيًا في التسامح مع أجساد الأفراد بل ومنحهم أجساد أدنى منهم، وفي مشهد افتتاحي دال من رواية الثأر V for Vendetta يحكي آلان مور حكاية إيفي هاموند التي وقعت في أيدي رجال السلطة (الجسد الجمعي) الذين يخبرونها أن من حقهم توقيع عقوبة جسدية عليها بوصفها عاهرة، من حقهم استخدامها كجسد مفرد خاضع لهم بوصفهم جزء من الجسد الجمعي، إيفي هنا تتحول إلى جسد خاضع ويتحول الأفراد إلى جسد جمعي يمارس سلطته.
  11. تحت عين الجسد الجمعي ينحرف الجسد الفرد عن غايته المرتبة سلفًا من قبل سلطة مهيمنة / فكرة / روح / شبح، ينحرف هذا الجسد الفرد إلى غايته هو، وحريته هو، ويحظى التراث العربي بذخائر حكايات استطاعت الأجساد المفردة فيها الهروب والانتقام من الجسد الجمعي، جزء كبير من حكايات الف ليلة وليلة مبني على تلك الثنائية، فالحكاية المفتتح هي انتقام جسد فرد خاضع من الجسد الجمعي، فزوجة شهريار تخونه مع عبيده، بوصفها جسد فرد، بينما هو يستمتع بها بوصفه جسد جمعي لا فردًا، فهو السلطة والسلطان والملك، وهو قوام عليها كذلك بموجب الفكرة المهيمنة، من أجل ذلك يستمر قمع ألف ليلة وليلة من قبل حراس عقل الجسد الجمعي، ويستمر قمع استخدام ألفاظها بوصفها انتهاكًا للعقل العام والفكرة المهيمنة التي من خلالها تحصل السلطة على جسدها.
  12. عن طريق خُلُق السلطة ترث السلطة أجساد الخَلق الخاضعين لها وتخلق جسدًا لتستوِ خلقًا جديدًا.
  13. يرتبط انهيار الأيديولوجيات العامة والقضايا الكبرى الزائفة باستعادة ما للجسد الفرد، في باريس 68 تنهزم ثورة الطلاب لكن ينتصر تيار استعادة قيمة الجسد الفرد وتحرره، وفي أمريكا الستينات ترتبط حركة الحقوق المدنية بحركة مناهضة الحرب ورفض الانضواء تحت الجسد الجمعي، مع تحرر شامل للجسد الفرد فيما سمي بالثورة الجنسية، استعادة الجسد الفرد من هيمنة السلطة (الجسد الجمعي) يتيح كذلك انعتاق الجسد الفرد من أخلاقيات السلطة.
  14. بدون فكرة مهيمنة تتحول السلطة لجسد بلا عقل، وتفقد القدرة على إلحاق أجساد جديدة بها عن طريق التراضي فلا يبق سوى الإخضاع عن طريق القهر، قبل اندلاع الثورة العربية الدائرة كان هناك صورتان للأفكار المهيمنة، صورة موروثة عن أنظمة القضايا الكبرى والانقلابات في خمسينيات وستينات القرن العشرين، وصورة أخرى موروثة عن حقبة أقدم بكثير، عن حقبة ولي الأمر والإمام واللاهوت المتماهي مع الناسوت، وبعد سقوط وجوه ثلاثة أنظمة ستتنصر الصورة الثانية بلا منازع، بوصفها عقل الجسد الجمعي العربي القائم من خلاله تخضع الأجساد الفردية وتلتحق بالسلطة.
  15. عاشت وجوه الأنظمة العربية الساقطة مرحلة صعبة قبل رحيلها، فقدت خلالها أيديولوجيتها المهمينة وصارت جسدًا بلا روح، ومضت تبحث شبح يسكنها ليعيد لها الحيوية، من خلال ترقيعات مختلفة، لكنها لم تدرك أنها صارت جثة شهية cadavre exquis، انقضى زمنها ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
  16. في سنواتها الأخيرة ستصبح وجوه الأنظمة العربية الساقطة سلطات ضد جسدية، يصح عليها التعبير الصائب لأحمد بحار (دولة الزومبي)، وسينزل أتباعها حرفيًا باحثين عن أجساد يخضعونها بطريق القهر، الجسد الجمعي العام سيكون قد مات بصورة لا يصلح معها أي بعث، وردًا على ذلك سيطلق أجساده الأفراد ليتخطفوا أجساد آخرين ليهبوا له الحياة، سيصير المخبرين والعسس كلاب مسعورة بالمعنى الحرفي، في هذا السياق ستنتشر فيديوهات التعذيب وفي هذا السياق سيموت خالد سعيد.
  17. الشرارة التي أندلع منها لهيب الثورة العربية لا تخلو من دلالة، فهناك جسد فرد غير مقتنع بسيادة السلطة عليه، سيقمع هذا الجسد من خلال يد السلطة/ الجثة، ولن يملك ردًا على تلك اليد الباطشة سوى حرق جسده نفسه.
  18. الهتافات الأولى للثورة العربية هتافات جسدية بامتياز، "خبز وماء وبن علي لا"، هتافات أجساد فردية محرومة ضد جسد جمعي سقط عنه التبرير والأيديولوجية فصار جثة هامدة، سيحتاج الأمر بعض الوقت حتى تتحول تلك الهتافات إلى هتافات من جسد جمعي جديد ضد جثة قديمة، الهتاف الأشهر " الشعب يريد إسقاط النظام" هو هتاف في هذا السياق، فالشعب (الفكرة المهيمنة البديلة) يتكون من أجساد جمعية مؤمنة بتلك الفكرة / الروح / الشبح يثور وينتفض ضد الجثة القديمة التي لم تعد صالحة، في مصر سيكون الهتاف المصاحب هتافًا جسديًا كذلك، " عيش .. حرية"، ودون النظر إلى الحد الثالث الموضوع من قبل أيديولوجيات بديلة تسعى إلى فرض جسدها الجمعي وسلطتها، يكون الهتاف جسدي وفردي بإمتياز ناتج عن أفراد راغبين في استعادة حرية فضاء ما لجسدهم الفرد، وطعام يقيموا به أود نفس الجسد الفرد.
  19. قبل سقوطها استمرت وجوه الأنظمة العربية تحكم كجثة سليمان النبي الميت على عصاه، لكن تحت بصرها وسمعها كانت تتشكل أشباح أخرى تسكن الجسد الميت، الشبح الأكثر انتشارًا وهيمنة وليد أنظمة مجاورة لها، لكنه ليس الوحيد.
  20. في السنوات الأخيرة من عمر تلك الأنظمة وبجوار الفكرة الدينية المهيمنة، سينتج شبح آخر، مكون من أجساد أفراد تبحث عن ذوبان جمعي في جسد عام، مرة في صورة فرق غنائية وهي محاولة لم يكتب لها النجاح في منتصف التسعينات ومرة أخرى في صورة أندية رياضية وهي المحاولة التي استمرت وانتشرت، كعب أخيل هنا أن تلك المحاولة رغم كونها منحت حرية ما لأجساد أفرادها عن طريق إندماجهم في جسد عام، إلا أنها ظلت حاملة لعقل الجسد الميت المطل عليها.
* تأملات غير مكتملة كتبت في خريف وشتاء ١٣٩١ هجري شمسي الموافق ٢٠١٢ ميلادية.
** التنسيق باستخدام الخط اﻷميري.

الأحد، 20 يناير 2019

الرقص مع الموت



يمكن فهم آلية الاكتئاب الملازم بوصفه رقصًا على جليد هش، الاكتئاب الملازم ليس حزنًا عابرًا أو كآبة بنت يوم وليلة أو أسبوع، بل ماء أسود وحمم بركانية تجمدوا في القاع وﻻ يحجزهم سوى سطح جليدي هش للغاية، مثل بيت العنكبوت بل أشد وهنًا يكفي أن تعبر بجواره بعوضة لينهار السطح ويغرق صاحبه في القاع، قد تكون البعوضة كلمة و صورة أو التفاتة أو أي شيء آخر ﻻ علاقة له مباشرة بالشخص الراقص على السطح الهش.

تأريخ شخصي للرقص

في ديسمبر الماضي مرت بجواري بعوضة، أدى طنينها لكسر السطح الجليدي الذي كنت أرقص فوقه لشهور تلت وفاة شقيقتي الكبرى. منذ عشرة أعوام أعاني من نوبات اكتئابية متكررة، أدخل وأخرج منها كما يتأرجح البندول، اختفى الاكتئاب تمامًا أثناء شهور الحياة الممتدة من يناير ٢٠١١ حتى أغسطس ٢٠١٣، وقتها كنت مشعًا مثل ماسة مجنونة.
منذ خريف ٢٠١٣ عدت لدورات الانطفاء واللمعان، في ربيع ٢٠١٥ أصيب والدي بإعاقة حركية، سببها حادث سيارة أثناء عبوره الطريق راجعًا من صلاة العصر. كان ﻻ بد أن تجرى عملية زراعة شرائح معدنية في عظمة فخده ومسمارًا آخر في مفصله، في صيف ٢٠١٥ توفى أخي اﻷكبر بدون سابقة مرض. استيقظ من نومه وألقي علي تحية الصباح ثم فقد وعيه أمام عتبة المبنى، وقفت على الغسل للمرة اﻷولى في حياتي، ثم نزلت إلى القبر، خرجت منه أخف قليلًا وأكثر استقرارًا، عرفت مكاني اﻷخير رغم كل شيء، لم يستطع أبي الذهاب لوداع أخي أو رؤية مثواه اﻷخير حتى اﻵن.
لم يكن ممكنًا الوقوع وقتها، كنت ملتزمًا بعملي باحثًا في فيلمي الوثائقي اﻷول عن محمد عبد الوهاب، ذهبت بعد وفاة أخي لتعلم العود، أحييتُ حلمًا سابقًا منذ المراهقة للعزف على العود، كان اﻷمر شاقًا بعد الثلاثين ودون توفر وقت كافٍ للتمرين اليومي، تحولت من كاتب ومترجم يهوى الموسيقا إلى باحث في التاريخ الموسيقي. نجحت المحاولة وأعطتني أعوامًا إضافية من رحلة الساقية، إشعاع في أسابيع وانطفاء بعدها.
بعد وفاة أخي كتبت نصًا على مدونتي عن الحياة والحزن، الحزن ملازم للحياة ويكفي أن تلمحه واقفًا على البعد لتبكي، "خليه غافل عن اللي راح" كما كتب رامي وغنت أم كلثوم، طالما ظل الإنسان في حال الغفلة فهو آمن من الحزن، كان هذا فكري وقتها ومهمتي، أن أغفل عن حزني الملازم كي ﻻ أسقط فريسة اكتئاب تسلمني إلى قرار الرحيل اﻷخير. نجحت في ذلك إلى حد ما حتى بدأ الانهيار المتتالي في ربيع العام الماضي.

كيف تتدحرج كرة الثلج؟

خرجت في أول أيام الربيع الماضي من علاقة عاطفية، تبع الخروج تراجع قدرتي على الكتابة واﻻلتزام بمواعيد العمل، زاد وزني في خلال شهر ونصف، عدت للعلاقة مرة أخرى في مايو، رغم إيقاني التام بفشلها الحتمي والخلافات الموضوعية والذاتية بيننا، كنت أستهلك روحي في تجربة غير صالحة، وفي يونيو أصبت بحبسة كتابة ظلت ملازمة لي طوال الشهور التالية، حبسة الكتابة عرض شائع بين الكتاب على كل حال، لكن حبسة كتابتي سببها شخص بعينه استمر في المشاحنة والسباب والسخرية المستترة عن الباحثين الموسيقيين ثلاثة أيام بلا سبب، لم يكن شخصًا عابرًا كانت معرفتنا وطيدة قبلها وﻻ أدري حتى هذه اللحظة سر ثورته وأفعاله. أذكر الحادثة اﻵن بوصفها درسًا مستفادًا ﻻ أكثر، ﻻ تخنقوا عبارات الناس بينما يكمنكم تطوير لغتهم.
في الشهور التالية فتحت قلبي لكل أنواع الطاقة السلبية، ضبطت مؤشر إذاعتي الداخلية على استقبال الرنين الكاتم على روح البشر، الموجات الكاتمة مثل بقعة زيت لزجة فوق وعيك وذاتك، تراجعت في عملي، اختل انتظام نومي، توقفت مشاريع القراءة، الشيء الوحيد الذي حافظت على انتظام هو التمشية اليومية، صرت أمشي أكثر من ٤ كيلومترات كل يوم، التزمت بنظام غذائي بعد رمضان أنقص وزني وجعل روحي أخف، كان هناك إنجاز وحيد في وسط عتمة الطاقة السلبية وشبكة العنكبوت الشبيهة بشريط كاسيت انحلت بكرته فوق وجهك.
في شهر أغسطس توفت أختي، قبلها دخلت في شهر مستمر من الخناقات مع شريكتي السابقة، خلافات بلا سبب وبأسباب واقعة، كانت علاقتي بها مثل مرض مناعي ذاتي، إيدز يأكل قلبي وروحي ونفسي ووعيي، تراكمت أفكار الكتابة دون جدوى، ثم دخلت أختي في مرضها اﻷخير، سقطت أمام الحمام بسبب خشونة المفاصل، ٥ دقائق عصيبة نحاول حملها لسريرها وتحاول هي إقامة جسدها، بكت، صعبت عليها نفسها، تذكرت سقوط أمي أمام الحمام قبل وفاتها في أغسطس ١٩٩٢، ظلت فوق سريرها ﻻ تريد الحركة، تراجعت حركتها شيئًا فشيئًا، انتظمنا في إعطائها الدواء والطعام والحديث معها، لكنها كانت قررت الرحيل، في ٢٩ أغسطس لحقت بأمها في نفس يوم وفاتها.
أعاد فقد شقيقتي الكبرى ذكريات فقد أمي منذ ٢٦ عامًا، في اﻷيام التالية انتابني هاجس وحيد، لو أسرعت بإحضار الطبيب ربما لم تكن لتموت، جاءتني الإجابة على هاجسي ذات يوم أثناء تمشيتي، سرحت ودخلت شارعًا جانبيًا لم أدخله منذ ١٠ أعوام أو ربما أكثر، أدركت إني ضللت الطريق فأسرعت الخطى للخروج من الشارع، وأثناء عودتي للشارع الرئيسي اصطدمت بكوب شاي وضعه حارس أمن بجوار عشائه، انكسر الكوب. كانت رحلتي كلها لكسر الكوب ﻻ أكثر، جاءني هذا الهاتف فصدقته.

تعب الروح تجربة للروح

كان شهر سبتمبر تجربة روحية غنية، عدت للقراءة في التصوف الإسلامي والحكمة الشرقية، صاحبت سيدي ابن عطاء الله السكندري في كتبه، أعدت قراءة سلطان اﻷسطورة لجوزيف كامبل، في نهاية سبتمبر انفصلت للمرة الثانية عن صديقتي السابقة، كان الانفصال عنيفًا جدًا، تجسيدًا لغباء محفوظات السياسة، ﻻ تستطيع أبدًا مصاحبة بطاقات كليشيهية مأخوذة من بيانات منظمات حقوق الإنسان، الحياة غير جلسات كتابة البيانات، الحب ﻻ يخضع لتصحيحات منهج الصواب السياسي، ولسنا في مدرسة لنصبح نظارًا نتسلط فوق بعض، انفجرت في وجهها، ثم أكملت انفجاري في الهاتف، كان انفصالي بداية شهري التفكير في الرحيل.
طوال أكتوبر ونوفمبر، كانت حياتي بين نوم طويل واختفاء، ثم استيقاظ بسيط، مر نوفمبر علي دون أن أدري، في ٢٧ نوفمبر كتبت مقالًا بعد انقطاع، ثم دخلت في دوامة النوم مرة أخرى، إفلاس مالي، حبسة كتابة، عدم القدرة على الاستيقاظ، طاقة سلبية من ملفات ضارة سابقة، اتخذت قرارًا بتطهير حساباتي، أغلقت حساب تويتر وفتحت حسابًا آخر، لكن مر بجواري بعوضة سامة في أول ديسمبر الماضي كسرت حاجز الدفاع، غرقت في البحيرة السوداء المتجمدة أسفل وجه الجليد، في الصباح التالي قررت الرحيل باختياري.

الرقص مع الموت

دومًا يفكر الناس في الرحيل الفجائي على الطريقة الغربية، يهدد شخصًا ما بالانتحار فيتصور من حوله إنه سيقتل نفسه، لكن قرار الانتحار هو قرار رحيل، والرحيل يمكن أن يكون فجائيًا ويمكن أن يكون تدريجيًا في نفس الوقت، قررت الرحيل وفكرت في أهلي وحدهم، قررت بيع مكتبتي قبل رحيلي ﻷوفر لهم مالًا ينفعهم بعد انتقالي، نويت على الرحيل البطيء الذي لن يكتشف بالتشريح، لم أرد ﻷهلي الدخول في دوامة جنائية، كانت تجربتي السابقة مع مكتب الصحة تجربة بيروقراطية سخيفة، لم أرد لوالدي الوقوف أمام موظف صحة يسأله "يعني ابنك ما بلبعش حاجة كدا وﻻ كدا"، نويت وبدأت التنفيذ، وللتخفي كنت أنزل كل يوم للتمشية الطويلة ليظن معارفي وأصدقائي أني بخير، لكني تراجعت بسبب أسباب كثيرة أهمها طاقة الحب التي غمرتني من أصدقائي.
جاءتني رسائل عديدة تثنيني عن قراري، أولها جاءت من خارج مصر، سطرين ﻻ أكثر عن رغبة الصديق في مقابلتي قبل رحيلي وسطر آخر بسيط "إنت مهم ما تخليش الوحش الاسود يبلعك"، تلتها مكالمات أخرى من أصدقاء، خارج أو داخل البلاد، سأحكي عن طاقة الحب ليعرف الناس كيف يحبون وسأحكي أيضًا عن أفعال تدفع الشخص للانتحار، من أسوأ الرسائل التي تلقتها سواء قبل التراجع أم بعده رسالة "لو بيحصل لك دا كتير روح لدكتور"، بنفس الصيغة الجافة، تحويلك من إنسان لحالة في الكتب بجرة قلم، لم يطلب شخص منهم مني أن أحكي كل ما طلبوه أن أذهب لطبيب ليتخلصوا من همي الذي لم أرغب أصلًا في إشراكهم فيه، اﻷقل سوءًا رسائل "ليه تنتحر؟"، وليحمد السائلون ربهم أو إبليسهم أني وفي عز لحظات اكتئابي تحليت ببعض العقل ولم انجر لكتابة ٢٠ سببًا منطقيًا للرحيل عن هذه الحياة. ﻻ تسأل أبدً شخصًا يشكو من حياته لماذا؟ اسمعه وفقط.
سأتوقف عند مكالمتين طوال، مكالمة من صديق قديم تقطعت بنا السبل نتيجة نفسنة الوسط الثقافي، اتصل بي وتصافينا في نهاية المكالمة الطويلة، لم أكن سبب المشكلة، كان سببها أحد المعارف المشتركين وهو بكل أسف أستاذ جامعي يلعب في أدمغة طلاب شباب حاليًا، المهم أن الصديق قال لي "خد بالك إنت بتلاعب الموت، اللعبة دي مش سهلة لكن هتطلع منها شخص مختلف تمامًا" وقد كان، الرسالة اﻷخرى كانت من صديق فيسبوكي لم نلتق أبدًا، اعتذر عن الاقتحام وقال لي "عش بجوارهم وﻻ تعش 
معهم"، حكمة بسيطة جدًا تغنيك عن الاشتباك مع البشر الجاذبين للأسفل.

التفاتة للطب المعاصر وميكانيكيته

حدث الموقف التالي في اليوم الثالث لإعلاني الرحيل، كنا جالسين في المقهى أحكي لصديقة إني لم أذق الطعام منذ ليلتين، تدخل شخصان بكل ثقة لإعلامي إني مصاب بأنيميا !! هكذا بدون تحليل أو كشف سريري أو أي شيء، بمجرد النظر، وتدخل أحدهم للتعليق على نظام غذائي الذي ﻻ يعلم تفاصيله، لست وقحًا فلم أشئ القول له "إنت بتشيش؟ هيجي لك سرطان فم قريب"، لم أتواقح لكني لاحظت كيف تواقحوا لمجرد إيمانهم بسلطة وهمية هي سلطة الطب على الجسد، بعد أسبوعين قابلت إثنين آخرين علق أحدهم على كلمة نباتي بموعظة دون أن يفهم أي نباتية أتبعها، لم أرد وقتها التعليق على بطنه المترهل، كنت في حالة مختلفة.
بدأت التراجع عن قرار الرحيل في ثالث يوم، قالت لي صديقتي اﻷقرب، "يا آبيه ما تمشيش عشان مش عارفة أعمل إيه من غيرك"، فيما بعد تذكرت كيف أنقذتها من دوامة الطب الدوائي التي دخلت فيها بسبب خطأ طبيبة ووصفاتها الدوائية المهلكة، آثار جانبية مؤذية، هلاوس وخلافه، تدخل الداومة مريض اكتئاب بسيط فتخرج منها مريض اكتئاب مزمن واكتئاب ثنائي القطب ووسواس قهري وفصام وكل لافتات الحالات المختلفة، انحدر هذا الطب وانحط لعلاج الجسم بوصفه معادلة كيميائية وليس بوصفه روحًا.
ما يفرق منهج الطب المعاصر عن الحكمة الشرقية التقليدية أكبر بكثير من القدم والمعاصرة، في الحكمة البوذية على سبيل المثال نستطيع جميعًا أن نكون البوذا لو حققنا الاستنارة، وكل مستنير له دربه الخاص الذي ﻻ يشبه أحدًا، العتبة عند متصوفي الإسلام، يصبح كل صاحب تجربة روحية قادرًا على حملها لغيره، "اسأل مجرب وﻻ تسأل طبيب"، بينما تقوم منظومة الطب المعاصر على علاقة طبيب- مريض، يذهب المريض للحصول على الروشتة الطبية ليصرف الدواء ليظل مريضًا، لن يصبح المريض قادرًا في لحظة على أن يكون مداويًا، علاقة التداوي تنحط إلى علاقة دواء وفقط.

انعتاق الروح

منذ شهر حصلت على جلسة إرشاد روحي من صديق، لم تكن جلسة نفسية في إطار فكرة مريض وطبيب، كانت جلسة من جلسات البوح، تحدثت عن مخاوفي كلها، وضعتها أمام عيني، وعلق هو عليها، أرشدي لحب نفسي وقال لي إني لو أحببت نفسي سيرد لي العالم الحب بالمقابل، حدثني عن التفرقة بين الكآبة الفلسفية الملازمة لوعينا المعاصر، الكآبة بنت الرأسمالية، بنت تحول الإنسان وقيمته لأرقام، الوسائط الاجتماعية ورأسمالية الإنترنت المعاصرة ترى الإنسان رقم مرور على صفحته ورقم متابعين ﻻ أكثر، وعلمني الفرق بينها وبين الاكتئاب المرضي، كان يحدثني بمنطق التجربة، وأخذت الفكرة بمنطق "ليه ما تجربش؟"
تسرق الرأسمالية الحكمة الشرقية لتضعها في كتب تنمية بشرية وخلافه، لكن ما هو خارجك هو مرآة لما تراه عن نفسك، يتحدث لوي ألتوسير في مقاله عن اﻷيديولوجية واﻷجهزة اﻷيديولوجية للدولة عن كيفية إلباس الدولة ذات غير حقيقية للمواطنين تستدعيها وقتما شاءت، اﻷمر يشبه إلباس الطالب طرطور الغبي، آلية التذنيب ظل عالقة بذهن الشخص حتى يتحرر منها، يتحدث مدربو التنمية البشرية عن المسألة بوصفها قانون الجذب أو السر، ليس في اﻷمر سرًا، السر في استعادة الإنسان ذاته الداخلية. اقلع غماك يا تور وانظر إلى ما بين يديك، حب نفسك ليحبك بمجرد العالم، استعد مركز اتزانك الداخلي لترقص على الجليد عنددون خوف.
جربت اﻷمر فور حصولي على النصيحة، استمعت للعالم بأذنين مفتوحتين، قابلت صدفة غريبة في مخبز قريب من منزلي، عدت لأدشن وسمًا عن كاركترات مصر الجديدة، كان محاولة استعادة جذوري في اﻷرض، الهروب من التواصل الوهمي من خلف الشاشات للتواصل الأقل وهمية على اﻷرض، استعدت حبي للناس، استعدت لغتي اليومية معهم، قررت أن أعتبر نفسي عبقريًا، صباح اليوم التالي قابلت سيدة من أهل الله، عندها لطف كما يقولون لمن لطف به الله فخف مراقبته السيئة لنفسه وصار على فطرته، كنت أعبر الطريق بين بيتي وبين محل بقالة قريب وهي تقول لبواب العمارة المجاورة "ربنا يدينا الصحة" وحين رأتني انفرجت أساريرها بابتسامة كبيرة ثم قالت "يدينا الصحة زي الشباب الحلو دا"، بمجرد خلع طرطور الفشل صرت أتلقى إشارات إيجابية كثيرة.

اختيار قانون الوجود

قبل أيام مر بي موقف صباحي، كنت أسير تحت بواكي الكوربة حاملًا باقة من الزهور، ليمر في الوقت نفسه عربات همفي مدرعة تؤمن القصر الجمهوري القريب. مرت بي العربات أثناء إلقائي زجاج المياه المعدنية في صندوق المهملات ورأيت فوهة البندقية اﻵلية موجهة لوجهي، في نفس اللحظة قالت لي امرأة خمسينية "إيه الورد الجميل دا"، كان بإمكاني اختيار التركيز في الموكب العسكري لكني أدرت له ظهري وابتسمت وقلت لها "حضرتك أجمل، صباح الخير"، لن يمنع اكتئابي مرور العربات العسكرية في الشارع، اللقطة الحادثة هي طلقة سلطة لو أخذتها في عيني ستقتلني لكني اخترت أن أتفاداها وأفرح رغم كل شيء، أدرت لها ظهري فأنهيتها وكأنها لم تكن، يتحدث حكيم باي كثيرًا عن الأناركية الوجودية اللحظية، ربما كانت هذه إحدى اللحظات.
ليس هناك حاكمًا على نظم قانون وجودك سوى وعيك، إنت وحدك من تستطيع انتقاء النتف ونسج الكليم، وحدك تستطيع انتقاء شقفات السيراميك لصنع لوحة من الفسيفساء، حين أعود اﻵن ﻷحكم على السنة الماضية أراها بوصفها محررًا، نار الكور التي تنقي الذهب من خبثه وتصقل المعدن، فقدت كرشي تمامًا وتحولت لشخص رياضي، انتظمت في نظامي الغذائي رغم كل شيء، خرجت منتصرًا فيما انتظمت فيه، وانقطع مني ما تلفتت وتركته.

لوحة الدعاء والعاقبة

استعدت الذاكرة بعد خروجي من بركة الاكتئاب اللزجة، صالحت الحياة فصالحتني، تذكرت منامًا رأيته في ربيع ٢٠١٣، كنت في دار شرق أقصوية ارتدى زيًا يابانيًا، انتظر الدخول على حكيم لسؤاله عن شيء، كان الحلم بالإنجليزية، قال لي "to claim your karma you've to break your EMA”، سألته عن الكلمة اﻷخيرة لأني لم أكن أعلم معناها، هي لوحة الدعاء في ديانة الشنتو اليابانية، استيقظت ونسيت المنام، علينا الانتباه ﻷحلامنا فهي تبلغنا بما ﻻ نعرفه بوعينا، أتذكر إني فسرت الحلم بالمعكوس، إن علي كسر إعلاني عن نفسي بينما اﻵن أدرك أن علي إعلان اﻷمر لتكسر اللوحة، أعلنت عبقريتي فاهداني صديق لوحة خط "عبقري في عالم طري" وضعتها نصب عيني ﻷراها طوال الوقت، صدقت نفسي فصدقني الناس.
يخلط البشر بين الثقة الداخلية، مركز الاتزان، الإيمان بالمصير، اليقين في صناعة الرحلة الذاتية، والغرور، الغرور يعني تكبر الإنسان على التعلم وﻻ يعني أبدًا معرفته لقيمة نفسه، على الإنسان انتقاء مصادر قيمته، لن يحصل على القيمة من عامة الوسائط الاجتماعية، عامة الوسائط الاجتماعية يصح عليهم مثل راكب الموتوسيكل لدى مدرسة فرانكفورت، يدوس عليهم النظام الفاشي فيدوسه على من يظنونه أقل منهم، العطب الرقمي الذي أصاب البعض أكبر منهم، يرى البعض أنفسهم مجرد صفحات لها ١٠٠ ألف متابع، ﻻ تتعب نفسك في التواصل معهم "عش بجوارهم وﻻ تعش معهم" كما قال صديقي الذي ﻻ أعرفه.

تجلي الجميل عبر البوح

العالم سيء، مليء بالكراهية والحقد والطبقية والتسلط والفروق بين البلدان والأجناس والنوعيات الجنسية إلى آخره، لكن هذا ﻻ يمنع تجلي الجميل عبر لحظات تلهم المقاومين فرص المقاومة، أتذكر الورود التي رأيتها على خط مترو مصر الجديدة تنبت من بين الحجارة بعد أسبوعين من حادثة والدي، ولكي يتجلى الجميل على الإنسان أن يصارح بحاجته للجمال، وعلى الإنسان أن يفرق بين الجمال الحقيقي والجمال التجاري، بين الأصل وبين الكيتش، بين الجمال المحرر للإنسان وروحه والجمال الذي يزيف وعي الإنسان ليدور في أتراس الرأسمالية ويتحول رقمًا بين أرقام.
تعلموا أن تمدحوا الناس في وجوههم قبل أن يرحلوا، أتذكر تغريدة روبن ويليامز لمعجب عن احتياجه لمدح بشري، يتكبر الناس على مدح من يعطيهم الأمل ويتجلى من خلاله الجمال. أحد النقاط التي فكرت فيها قبل تراجعي عن قرار الرحيل هو عدم رغبتي في التحول لقصة حزينة، في وسط ثقافي منحط ومدعي، يتحول المنتحر لمادة قصائد شعرية من بشر لم يلحظوا وجوده أو ساهموا في حالته، تركت كل هذا ورائي، نويت قطع علاقتي بمن أصروا على معاملتي مثل ذاتي الماضية، أنا إنسان جديد، عُمدت بالحزن والفقد ونزول القبر، ذاتي الجديدة تستحق أن أحمل فوق ظهري جوالًا من الطاقة الإيجابية والبذور الصالحة للزرع والإنبات، "بعد الطوفان نلقى الصديق الزين" أعدت علاقتي بصديق خارج من حالة تشبه حالتي، الصديق الزين الذي تعيده إليك الحياة، بينما قطعت علاقتي بكثيرين أصروا على معاملتي مثلما كنت منذ أعوام سابقة، أنا اﻵن غير، أعرف قيمتي وقامتي، أمتلك ناصية الكتابة، وموهبة البوح، وبراعة المراقبة، وتواضع العباقرة.
أكتب هذا اﻵن ﻷني تعلمت قوة الكلمة، الكلمة مثل أوامر يتلقاها قانون الوجود، نجوت وانتصرت، رقصت مع الموت رقص العصا، حطبنا ولم يكسر ضلعي، بعد عمر طويل سأذهب إليه راضيًا عن نفسي وعما فعلت، لن أعتذر عما فعلت، سأصنع تاريخًا ذاتيًا، سأكون فرصة ضائعة في حياة من استقلوا بي، الموت هو المصير اﻷخير، لكن الحياة اختيار.
في رواية الثأر V for vendetta ﻵﻻن مور تترك ڤاليري رسالة في زنزانتها لتعلم من جاء بعدها اﻷمر، التحرر أن تحتفظ داخل ذاتك بنقطة ضوء أخيرة ﻻ يمكن قتلها، التحرر والخروج من التجربة يجعلك أقوى وأشرس في مواجهة العالم، يجعلك مرآة يتجلى عليها الجميل والهو والمجهول، أنا صديقك يا من تقرأ هذا الكلام وتفكر في الرحيل الاختياري، أحبك فلا ترحل بإرادتك، ابق معنا لنرى تجلى الجميل في كل لحظة سانحة، ولنكن نحن تجلي الجميل في هذا العالم القاسي الذي نريد أن نستبدله بعالم آخر أجمل.