الأحد، 20 يناير 2019

الرقص مع الموت



يمكن فهم آلية الاكتئاب الملازم بوصفه رقصًا على جليد هش، الاكتئاب الملازم ليس حزنًا عابرًا أو كآبة بنت يوم وليلة أو أسبوع، بل ماء أسود وحمم بركانية تجمدوا في القاع وﻻ يحجزهم سوى سطح جليدي هش للغاية، مثل بيت العنكبوت بل أشد وهنًا يكفي أن تعبر بجواره بعوضة لينهار السطح ويغرق صاحبه في القاع، قد تكون البعوضة كلمة و صورة أو التفاتة أو أي شيء آخر ﻻ علاقة له مباشرة بالشخص الراقص على السطح الهش.

تأريخ شخصي للرقص

في ديسمبر الماضي مرت بجواري بعوضة، أدى طنينها لكسر السطح الجليدي الذي كنت أرقص فوقه لشهور تلت وفاة شقيقتي الكبرى. منذ عشرة أعوام أعاني من نوبات اكتئابية متكررة، أدخل وأخرج منها كما يتأرجح البندول، اختفى الاكتئاب تمامًا أثناء شهور الحياة الممتدة من يناير ٢٠١١ حتى أغسطس ٢٠١٣، وقتها كنت مشعًا مثل ماسة مجنونة.
منذ خريف ٢٠١٣ عدت لدورات الانطفاء واللمعان، في ربيع ٢٠١٥ أصيب والدي بإعاقة حركية، سببها حادث سيارة أثناء عبوره الطريق راجعًا من صلاة العصر. كان ﻻ بد أن تجرى عملية زراعة شرائح معدنية في عظمة فخده ومسمارًا آخر في مفصله، في صيف ٢٠١٥ توفى أخي اﻷكبر بدون سابقة مرض. استيقظ من نومه وألقي علي تحية الصباح ثم فقد وعيه أمام عتبة المبنى، وقفت على الغسل للمرة اﻷولى في حياتي، ثم نزلت إلى القبر، خرجت منه أخف قليلًا وأكثر استقرارًا، عرفت مكاني اﻷخير رغم كل شيء، لم يستطع أبي الذهاب لوداع أخي أو رؤية مثواه اﻷخير حتى اﻵن.
لم يكن ممكنًا الوقوع وقتها، كنت ملتزمًا بعملي باحثًا في فيلمي الوثائقي اﻷول عن محمد عبد الوهاب، ذهبت بعد وفاة أخي لتعلم العود، أحييتُ حلمًا سابقًا منذ المراهقة للعزف على العود، كان اﻷمر شاقًا بعد الثلاثين ودون توفر وقت كافٍ للتمرين اليومي، تحولت من كاتب ومترجم يهوى الموسيقا إلى باحث في التاريخ الموسيقي. نجحت المحاولة وأعطتني أعوامًا إضافية من رحلة الساقية، إشعاع في أسابيع وانطفاء بعدها.
بعد وفاة أخي كتبت نصًا على مدونتي عن الحياة والحزن، الحزن ملازم للحياة ويكفي أن تلمحه واقفًا على البعد لتبكي، "خليه غافل عن اللي راح" كما كتب رامي وغنت أم كلثوم، طالما ظل الإنسان في حال الغفلة فهو آمن من الحزن، كان هذا فكري وقتها ومهمتي، أن أغفل عن حزني الملازم كي ﻻ أسقط فريسة اكتئاب تسلمني إلى قرار الرحيل اﻷخير. نجحت في ذلك إلى حد ما حتى بدأ الانهيار المتتالي في ربيع العام الماضي.

كيف تتدحرج كرة الثلج؟

خرجت في أول أيام الربيع الماضي من علاقة عاطفية، تبع الخروج تراجع قدرتي على الكتابة واﻻلتزام بمواعيد العمل، زاد وزني في خلال شهر ونصف، عدت للعلاقة مرة أخرى في مايو، رغم إيقاني التام بفشلها الحتمي والخلافات الموضوعية والذاتية بيننا، كنت أستهلك روحي في تجربة غير صالحة، وفي يونيو أصبت بحبسة كتابة ظلت ملازمة لي طوال الشهور التالية، حبسة الكتابة عرض شائع بين الكتاب على كل حال، لكن حبسة كتابتي سببها شخص بعينه استمر في المشاحنة والسباب والسخرية المستترة عن الباحثين الموسيقيين ثلاثة أيام بلا سبب، لم يكن شخصًا عابرًا كانت معرفتنا وطيدة قبلها وﻻ أدري حتى هذه اللحظة سر ثورته وأفعاله. أذكر الحادثة اﻵن بوصفها درسًا مستفادًا ﻻ أكثر، ﻻ تخنقوا عبارات الناس بينما يكمنكم تطوير لغتهم.
في الشهور التالية فتحت قلبي لكل أنواع الطاقة السلبية، ضبطت مؤشر إذاعتي الداخلية على استقبال الرنين الكاتم على روح البشر، الموجات الكاتمة مثل بقعة زيت لزجة فوق وعيك وذاتك، تراجعت في عملي، اختل انتظام نومي، توقفت مشاريع القراءة، الشيء الوحيد الذي حافظت على انتظام هو التمشية اليومية، صرت أمشي أكثر من ٤ كيلومترات كل يوم، التزمت بنظام غذائي بعد رمضان أنقص وزني وجعل روحي أخف، كان هناك إنجاز وحيد في وسط عتمة الطاقة السلبية وشبكة العنكبوت الشبيهة بشريط كاسيت انحلت بكرته فوق وجهك.
في شهر أغسطس توفت أختي، قبلها دخلت في شهر مستمر من الخناقات مع شريكتي السابقة، خلافات بلا سبب وبأسباب واقعة، كانت علاقتي بها مثل مرض مناعي ذاتي، إيدز يأكل قلبي وروحي ونفسي ووعيي، تراكمت أفكار الكتابة دون جدوى، ثم دخلت أختي في مرضها اﻷخير، سقطت أمام الحمام بسبب خشونة المفاصل، ٥ دقائق عصيبة نحاول حملها لسريرها وتحاول هي إقامة جسدها، بكت، صعبت عليها نفسها، تذكرت سقوط أمي أمام الحمام قبل وفاتها في أغسطس ١٩٩٢، ظلت فوق سريرها ﻻ تريد الحركة، تراجعت حركتها شيئًا فشيئًا، انتظمنا في إعطائها الدواء والطعام والحديث معها، لكنها كانت قررت الرحيل، في ٢٩ أغسطس لحقت بأمها في نفس يوم وفاتها.
أعاد فقد شقيقتي الكبرى ذكريات فقد أمي منذ ٢٦ عامًا، في اﻷيام التالية انتابني هاجس وحيد، لو أسرعت بإحضار الطبيب ربما لم تكن لتموت، جاءتني الإجابة على هاجسي ذات يوم أثناء تمشيتي، سرحت ودخلت شارعًا جانبيًا لم أدخله منذ ١٠ أعوام أو ربما أكثر، أدركت إني ضللت الطريق فأسرعت الخطى للخروج من الشارع، وأثناء عودتي للشارع الرئيسي اصطدمت بكوب شاي وضعه حارس أمن بجوار عشائه، انكسر الكوب. كانت رحلتي كلها لكسر الكوب ﻻ أكثر، جاءني هذا الهاتف فصدقته.

تعب الروح تجربة للروح

كان شهر سبتمبر تجربة روحية غنية، عدت للقراءة في التصوف الإسلامي والحكمة الشرقية، صاحبت سيدي ابن عطاء الله السكندري في كتبه، أعدت قراءة سلطان اﻷسطورة لجوزيف كامبل، في نهاية سبتمبر انفصلت للمرة الثانية عن صديقتي السابقة، كان الانفصال عنيفًا جدًا، تجسيدًا لغباء محفوظات السياسة، ﻻ تستطيع أبدًا مصاحبة بطاقات كليشيهية مأخوذة من بيانات منظمات حقوق الإنسان، الحياة غير جلسات كتابة البيانات، الحب ﻻ يخضع لتصحيحات منهج الصواب السياسي، ولسنا في مدرسة لنصبح نظارًا نتسلط فوق بعض، انفجرت في وجهها، ثم أكملت انفجاري في الهاتف، كان انفصالي بداية شهري التفكير في الرحيل.
طوال أكتوبر ونوفمبر، كانت حياتي بين نوم طويل واختفاء، ثم استيقاظ بسيط، مر نوفمبر علي دون أن أدري، في ٢٧ نوفمبر كتبت مقالًا بعد انقطاع، ثم دخلت في دوامة النوم مرة أخرى، إفلاس مالي، حبسة كتابة، عدم القدرة على الاستيقاظ، طاقة سلبية من ملفات ضارة سابقة، اتخذت قرارًا بتطهير حساباتي، أغلقت حساب تويتر وفتحت حسابًا آخر، لكن مر بجواري بعوضة سامة في أول ديسمبر الماضي كسرت حاجز الدفاع، غرقت في البحيرة السوداء المتجمدة أسفل وجه الجليد، في الصباح التالي قررت الرحيل باختياري.

الرقص مع الموت

دومًا يفكر الناس في الرحيل الفجائي على الطريقة الغربية، يهدد شخصًا ما بالانتحار فيتصور من حوله إنه سيقتل نفسه، لكن قرار الانتحار هو قرار رحيل، والرحيل يمكن أن يكون فجائيًا ويمكن أن يكون تدريجيًا في نفس الوقت، قررت الرحيل وفكرت في أهلي وحدهم، قررت بيع مكتبتي قبل رحيلي ﻷوفر لهم مالًا ينفعهم بعد انتقالي، نويت على الرحيل البطيء الذي لن يكتشف بالتشريح، لم أرد ﻷهلي الدخول في دوامة جنائية، كانت تجربتي السابقة مع مكتب الصحة تجربة بيروقراطية سخيفة، لم أرد لوالدي الوقوف أمام موظف صحة يسأله "يعني ابنك ما بلبعش حاجة كدا وﻻ كدا"، نويت وبدأت التنفيذ، وللتخفي كنت أنزل كل يوم للتمشية الطويلة ليظن معارفي وأصدقائي أني بخير، لكني تراجعت بسبب أسباب كثيرة أهمها طاقة الحب التي غمرتني من أصدقائي.
جاءتني رسائل عديدة تثنيني عن قراري، أولها جاءت من خارج مصر، سطرين ﻻ أكثر عن رغبة الصديق في مقابلتي قبل رحيلي وسطر آخر بسيط "إنت مهم ما تخليش الوحش الاسود يبلعك"، تلتها مكالمات أخرى من أصدقاء، خارج أو داخل البلاد، سأحكي عن طاقة الحب ليعرف الناس كيف يحبون وسأحكي أيضًا عن أفعال تدفع الشخص للانتحار، من أسوأ الرسائل التي تلقتها سواء قبل التراجع أم بعده رسالة "لو بيحصل لك دا كتير روح لدكتور"، بنفس الصيغة الجافة، تحويلك من إنسان لحالة في الكتب بجرة قلم، لم يطلب شخص منهم مني أن أحكي كل ما طلبوه أن أذهب لطبيب ليتخلصوا من همي الذي لم أرغب أصلًا في إشراكهم فيه، اﻷقل سوءًا رسائل "ليه تنتحر؟"، وليحمد السائلون ربهم أو إبليسهم أني وفي عز لحظات اكتئابي تحليت ببعض العقل ولم انجر لكتابة ٢٠ سببًا منطقيًا للرحيل عن هذه الحياة. ﻻ تسأل أبدً شخصًا يشكو من حياته لماذا؟ اسمعه وفقط.
سأتوقف عند مكالمتين طوال، مكالمة من صديق قديم تقطعت بنا السبل نتيجة نفسنة الوسط الثقافي، اتصل بي وتصافينا في نهاية المكالمة الطويلة، لم أكن سبب المشكلة، كان سببها أحد المعارف المشتركين وهو بكل أسف أستاذ جامعي يلعب في أدمغة طلاب شباب حاليًا، المهم أن الصديق قال لي "خد بالك إنت بتلاعب الموت، اللعبة دي مش سهلة لكن هتطلع منها شخص مختلف تمامًا" وقد كان، الرسالة اﻷخرى كانت من صديق فيسبوكي لم نلتق أبدًا، اعتذر عن الاقتحام وقال لي "عش بجوارهم وﻻ تعش 
معهم"، حكمة بسيطة جدًا تغنيك عن الاشتباك مع البشر الجاذبين للأسفل.

التفاتة للطب المعاصر وميكانيكيته

حدث الموقف التالي في اليوم الثالث لإعلاني الرحيل، كنا جالسين في المقهى أحكي لصديقة إني لم أذق الطعام منذ ليلتين، تدخل شخصان بكل ثقة لإعلامي إني مصاب بأنيميا !! هكذا بدون تحليل أو كشف سريري أو أي شيء، بمجرد النظر، وتدخل أحدهم للتعليق على نظام غذائي الذي ﻻ يعلم تفاصيله، لست وقحًا فلم أشئ القول له "إنت بتشيش؟ هيجي لك سرطان فم قريب"، لم أتواقح لكني لاحظت كيف تواقحوا لمجرد إيمانهم بسلطة وهمية هي سلطة الطب على الجسد، بعد أسبوعين قابلت إثنين آخرين علق أحدهم على كلمة نباتي بموعظة دون أن يفهم أي نباتية أتبعها، لم أرد وقتها التعليق على بطنه المترهل، كنت في حالة مختلفة.
بدأت التراجع عن قرار الرحيل في ثالث يوم، قالت لي صديقتي اﻷقرب، "يا آبيه ما تمشيش عشان مش عارفة أعمل إيه من غيرك"، فيما بعد تذكرت كيف أنقذتها من دوامة الطب الدوائي التي دخلت فيها بسبب خطأ طبيبة ووصفاتها الدوائية المهلكة، آثار جانبية مؤذية، هلاوس وخلافه، تدخل الداومة مريض اكتئاب بسيط فتخرج منها مريض اكتئاب مزمن واكتئاب ثنائي القطب ووسواس قهري وفصام وكل لافتات الحالات المختلفة، انحدر هذا الطب وانحط لعلاج الجسم بوصفه معادلة كيميائية وليس بوصفه روحًا.
ما يفرق منهج الطب المعاصر عن الحكمة الشرقية التقليدية أكبر بكثير من القدم والمعاصرة، في الحكمة البوذية على سبيل المثال نستطيع جميعًا أن نكون البوذا لو حققنا الاستنارة، وكل مستنير له دربه الخاص الذي ﻻ يشبه أحدًا، العتبة عند متصوفي الإسلام، يصبح كل صاحب تجربة روحية قادرًا على حملها لغيره، "اسأل مجرب وﻻ تسأل طبيب"، بينما تقوم منظومة الطب المعاصر على علاقة طبيب- مريض، يذهب المريض للحصول على الروشتة الطبية ليصرف الدواء ليظل مريضًا، لن يصبح المريض قادرًا في لحظة على أن يكون مداويًا، علاقة التداوي تنحط إلى علاقة دواء وفقط.

انعتاق الروح

منذ شهر حصلت على جلسة إرشاد روحي من صديق، لم تكن جلسة نفسية في إطار فكرة مريض وطبيب، كانت جلسة من جلسات البوح، تحدثت عن مخاوفي كلها، وضعتها أمام عيني، وعلق هو عليها، أرشدي لحب نفسي وقال لي إني لو أحببت نفسي سيرد لي العالم الحب بالمقابل، حدثني عن التفرقة بين الكآبة الفلسفية الملازمة لوعينا المعاصر، الكآبة بنت الرأسمالية، بنت تحول الإنسان وقيمته لأرقام، الوسائط الاجتماعية ورأسمالية الإنترنت المعاصرة ترى الإنسان رقم مرور على صفحته ورقم متابعين ﻻ أكثر، وعلمني الفرق بينها وبين الاكتئاب المرضي، كان يحدثني بمنطق التجربة، وأخذت الفكرة بمنطق "ليه ما تجربش؟"
تسرق الرأسمالية الحكمة الشرقية لتضعها في كتب تنمية بشرية وخلافه، لكن ما هو خارجك هو مرآة لما تراه عن نفسك، يتحدث لوي ألتوسير في مقاله عن اﻷيديولوجية واﻷجهزة اﻷيديولوجية للدولة عن كيفية إلباس الدولة ذات غير حقيقية للمواطنين تستدعيها وقتما شاءت، اﻷمر يشبه إلباس الطالب طرطور الغبي، آلية التذنيب ظل عالقة بذهن الشخص حتى يتحرر منها، يتحدث مدربو التنمية البشرية عن المسألة بوصفها قانون الجذب أو السر، ليس في اﻷمر سرًا، السر في استعادة الإنسان ذاته الداخلية. اقلع غماك يا تور وانظر إلى ما بين يديك، حب نفسك ليحبك بمجرد العالم، استعد مركز اتزانك الداخلي لترقص على الجليد عنددون خوف.
جربت اﻷمر فور حصولي على النصيحة، استمعت للعالم بأذنين مفتوحتين، قابلت صدفة غريبة في مخبز قريب من منزلي، عدت لأدشن وسمًا عن كاركترات مصر الجديدة، كان محاولة استعادة جذوري في اﻷرض، الهروب من التواصل الوهمي من خلف الشاشات للتواصل الأقل وهمية على اﻷرض، استعدت حبي للناس، استعدت لغتي اليومية معهم، قررت أن أعتبر نفسي عبقريًا، صباح اليوم التالي قابلت سيدة من أهل الله، عندها لطف كما يقولون لمن لطف به الله فخف مراقبته السيئة لنفسه وصار على فطرته، كنت أعبر الطريق بين بيتي وبين محل بقالة قريب وهي تقول لبواب العمارة المجاورة "ربنا يدينا الصحة" وحين رأتني انفرجت أساريرها بابتسامة كبيرة ثم قالت "يدينا الصحة زي الشباب الحلو دا"، بمجرد خلع طرطور الفشل صرت أتلقى إشارات إيجابية كثيرة.

اختيار قانون الوجود

قبل أيام مر بي موقف صباحي، كنت أسير تحت بواكي الكوربة حاملًا باقة من الزهور، ليمر في الوقت نفسه عربات همفي مدرعة تؤمن القصر الجمهوري القريب. مرت بي العربات أثناء إلقائي زجاج المياه المعدنية في صندوق المهملات ورأيت فوهة البندقية اﻵلية موجهة لوجهي، في نفس اللحظة قالت لي امرأة خمسينية "إيه الورد الجميل دا"، كان بإمكاني اختيار التركيز في الموكب العسكري لكني أدرت له ظهري وابتسمت وقلت لها "حضرتك أجمل، صباح الخير"، لن يمنع اكتئابي مرور العربات العسكرية في الشارع، اللقطة الحادثة هي طلقة سلطة لو أخذتها في عيني ستقتلني لكني اخترت أن أتفاداها وأفرح رغم كل شيء، أدرت لها ظهري فأنهيتها وكأنها لم تكن، يتحدث حكيم باي كثيرًا عن الأناركية الوجودية اللحظية، ربما كانت هذه إحدى اللحظات.
ليس هناك حاكمًا على نظم قانون وجودك سوى وعيك، إنت وحدك من تستطيع انتقاء النتف ونسج الكليم، وحدك تستطيع انتقاء شقفات السيراميك لصنع لوحة من الفسيفساء، حين أعود اﻵن ﻷحكم على السنة الماضية أراها بوصفها محررًا، نار الكور التي تنقي الذهب من خبثه وتصقل المعدن، فقدت كرشي تمامًا وتحولت لشخص رياضي، انتظمت في نظامي الغذائي رغم كل شيء، خرجت منتصرًا فيما انتظمت فيه، وانقطع مني ما تلفتت وتركته.

لوحة الدعاء والعاقبة

استعدت الذاكرة بعد خروجي من بركة الاكتئاب اللزجة، صالحت الحياة فصالحتني، تذكرت منامًا رأيته في ربيع ٢٠١٣، كنت في دار شرق أقصوية ارتدى زيًا يابانيًا، انتظر الدخول على حكيم لسؤاله عن شيء، كان الحلم بالإنجليزية، قال لي "to claim your karma you've to break your EMA”، سألته عن الكلمة اﻷخيرة لأني لم أكن أعلم معناها، هي لوحة الدعاء في ديانة الشنتو اليابانية، استيقظت ونسيت المنام، علينا الانتباه ﻷحلامنا فهي تبلغنا بما ﻻ نعرفه بوعينا، أتذكر إني فسرت الحلم بالمعكوس، إن علي كسر إعلاني عن نفسي بينما اﻵن أدرك أن علي إعلان اﻷمر لتكسر اللوحة، أعلنت عبقريتي فاهداني صديق لوحة خط "عبقري في عالم طري" وضعتها نصب عيني ﻷراها طوال الوقت، صدقت نفسي فصدقني الناس.
يخلط البشر بين الثقة الداخلية، مركز الاتزان، الإيمان بالمصير، اليقين في صناعة الرحلة الذاتية، والغرور، الغرور يعني تكبر الإنسان على التعلم وﻻ يعني أبدًا معرفته لقيمة نفسه، على الإنسان انتقاء مصادر قيمته، لن يحصل على القيمة من عامة الوسائط الاجتماعية، عامة الوسائط الاجتماعية يصح عليهم مثل راكب الموتوسيكل لدى مدرسة فرانكفورت، يدوس عليهم النظام الفاشي فيدوسه على من يظنونه أقل منهم، العطب الرقمي الذي أصاب البعض أكبر منهم، يرى البعض أنفسهم مجرد صفحات لها ١٠٠ ألف متابع، ﻻ تتعب نفسك في التواصل معهم "عش بجوارهم وﻻ تعش معهم" كما قال صديقي الذي ﻻ أعرفه.

تجلي الجميل عبر البوح

العالم سيء، مليء بالكراهية والحقد والطبقية والتسلط والفروق بين البلدان والأجناس والنوعيات الجنسية إلى آخره، لكن هذا ﻻ يمنع تجلي الجميل عبر لحظات تلهم المقاومين فرص المقاومة، أتذكر الورود التي رأيتها على خط مترو مصر الجديدة تنبت من بين الحجارة بعد أسبوعين من حادثة والدي، ولكي يتجلى الجميل على الإنسان أن يصارح بحاجته للجمال، وعلى الإنسان أن يفرق بين الجمال الحقيقي والجمال التجاري، بين الأصل وبين الكيتش، بين الجمال المحرر للإنسان وروحه والجمال الذي يزيف وعي الإنسان ليدور في أتراس الرأسمالية ويتحول رقمًا بين أرقام.
تعلموا أن تمدحوا الناس في وجوههم قبل أن يرحلوا، أتذكر تغريدة روبن ويليامز لمعجب عن احتياجه لمدح بشري، يتكبر الناس على مدح من يعطيهم الأمل ويتجلى من خلاله الجمال. أحد النقاط التي فكرت فيها قبل تراجعي عن قرار الرحيل هو عدم رغبتي في التحول لقصة حزينة، في وسط ثقافي منحط ومدعي، يتحول المنتحر لمادة قصائد شعرية من بشر لم يلحظوا وجوده أو ساهموا في حالته، تركت كل هذا ورائي، نويت قطع علاقتي بمن أصروا على معاملتي مثل ذاتي الماضية، أنا إنسان جديد، عُمدت بالحزن والفقد ونزول القبر، ذاتي الجديدة تستحق أن أحمل فوق ظهري جوالًا من الطاقة الإيجابية والبذور الصالحة للزرع والإنبات، "بعد الطوفان نلقى الصديق الزين" أعدت علاقتي بصديق خارج من حالة تشبه حالتي، الصديق الزين الذي تعيده إليك الحياة، بينما قطعت علاقتي بكثيرين أصروا على معاملتي مثلما كنت منذ أعوام سابقة، أنا اﻵن غير، أعرف قيمتي وقامتي، أمتلك ناصية الكتابة، وموهبة البوح، وبراعة المراقبة، وتواضع العباقرة.
أكتب هذا اﻵن ﻷني تعلمت قوة الكلمة، الكلمة مثل أوامر يتلقاها قانون الوجود، نجوت وانتصرت، رقصت مع الموت رقص العصا، حطبنا ولم يكسر ضلعي، بعد عمر طويل سأذهب إليه راضيًا عن نفسي وعما فعلت، لن أعتذر عما فعلت، سأصنع تاريخًا ذاتيًا، سأكون فرصة ضائعة في حياة من استقلوا بي، الموت هو المصير اﻷخير، لكن الحياة اختيار.
في رواية الثأر V for vendetta ﻵﻻن مور تترك ڤاليري رسالة في زنزانتها لتعلم من جاء بعدها اﻷمر، التحرر أن تحتفظ داخل ذاتك بنقطة ضوء أخيرة ﻻ يمكن قتلها، التحرر والخروج من التجربة يجعلك أقوى وأشرس في مواجهة العالم، يجعلك مرآة يتجلى عليها الجميل والهو والمجهول، أنا صديقك يا من تقرأ هذا الكلام وتفكر في الرحيل الاختياري، أحبك فلا ترحل بإرادتك، ابق معنا لنرى تجلى الجميل في كل لحظة سانحة، ولنكن نحن تجلي الجميل في هذا العالم القاسي الذي نريد أن نستبدله بعالم آخر أجمل.





هناك تعليقان (2):

  1. ((ولنكن نحن تجلي الجميل في هذا العالم القاسي الذي نريد أن نستبدله بعالم آخر أجمل))
    الله يا ياسر

    ردحذف
  2. جميل صديقي سرد مثير عاش

    ردحذف