الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

الحبرشة في الصندوق الزجاجي


الحبرشة في الصندوق الزجاجي

الخاص والعام

يصير يان بزوخاركا، أحد شخصيات ربيع براغ البارزة كما يحكي كونديرا في (خفة الوجود اللامحتملة)، شخصية مراقبة بعد الغزو الروسي في 1968، تسجل الشرطة السرية كل محادثاته الخاصة هو وصديقه المعارض الآخر، فاتسلاف تشرني، وبعد عامين ولرغبة ما في تجريسهما تذيع الشرطة محادثاتهما الخاصة على مسامع سكان براغ عبر مكبرات الإذاعة، بكل ما فيها من وقاحة حميمية وسباب لفظي غير معلن، وذكر لأوصاف لا تُذكر، يتابع السكان الأمر بشغف في البداية، ومع الوقت ينتبهون إلى " أن الفضيحة الحقيقية لم تكن الكلمات الجريئة لبزوخاركا بل اغتصاب حياته، لقد انتبهوا (كما لو بصدمة) إلى أن الحياة الخاصة والحياة العامة عالمان مختلفان"[1]
قبل أن يحكي تلك الحكاية، يبدأ كونديرا تحليله بنشوء فكرة الحياء وارتباطها بالحياة الحديثة، بالأحرى ارتباطها بالحياة المدينية الحديثة، في تلك المدينة المعقدة التي لا يعرف فيها أحدٌ أحدًا، والتي يحافظ الجميع فيها على حدود ما وهمية عن طريق شيئين أساسيين هما الحياء والخصوصية، ما يمنع الحياة الخاصة من الخروج إلى العامة والأغراب المجهولين هو الحياء بفعله الأبسط، هو الخجل من خرائنا الخاص، وما يمنع الحياة العامة من التدخل في الحياة الخاصة حق بسيط يُدعى خصوصية الفرد المجهول، عالمان منفصلان، بينهما برزخ لا يبغيان، والباغي على هذا البرزخ مجرم أو قليل الحياء.

المدينة الكبيرة والقرية

تجعل المدينة الكبيرة الحيثة، وجود المتسكع الغريب ممكنًا، إنها بالأحرى تخلقه، بحسب فالتر بنيامين لم يعد المجتمع/الفضاء العام هو حيز العلاقات المباشرة القائمة على معرفة الوجه للوجه، المتسكع لن يُلاحظ من قبل شخص آخر يعرفه، فالفضاء العام للمدينة الكبيرة هو فضاء الأفراد المجهولين، فضاء المجهولية anonymity، بذلك تغدو المدينة الكبيرة المكان المفضل للمتسكع، والمتآمر، والبصباص[2]، فبدون تلك المجهولية القائمة على غرابة الأفراد لم تكن تلك الأفعال ممكنة، ومعها فعل التحرش الجنسي، لذلك تخلو النصوص الدينية السامية القديمة من عقاب مباشر / حد له.
فالمدينة الحديثة تختلف عن قرى أسباط بني إسرائيل، وقرى الجليل، و (المدينة المنورة) والكوفة وبغداد، تلك هي البلدات القديمة أو بالأحرى قرى واسعة تتشكل العلاقات فيها على خروج البطن/ القبيلة / العشيرة إلى حيز أوسع، ومن ثم تغيب فيها مساحات الحياء المديني والخصوصية، في تلك البلدات يباح للمرء التحدث عن جسده الخاص وسط أهله وعشيرته، وربما يشكل ذلك وجه مقارنة ما ما بين حياء العصر الفيكتوري الجنسي، وإباحة التراث العربي.

صراع الأفندي والفلاح

العلاقة بين المدينة الكبيرة الحديثة في مصر والبلاد العربية والقرى لم تخلُ من محاولات كثيرة للإخضاع والغزو، فالمدينة الكبيرة لم تنشأ في مصر إلا على يد غزاة فاتحين، لقد بدأت النشأة على يد الألباني محمد علي وأكملها خَلَفه إسماعيل باشا، كانت المدينة الكبيرة بالنسبة للقرية هي القرية الظالم أهلها، البلد الخبيث المليئ بالملذات والموبقات والكبائر، وفي بدايات القرن العشرين لم تخل روايات العهد المسرحية من شخصية كشكش بك، القروي الساذج.
ما يأخذه ابن القرية على المدينة الكبيرة الحديثة هو أساس فخرها، فالملذات والملاهي والآثام قائمة كلها على مجهولية الأفراد الغرباء، مما يسمح لهم بهماش ما من الحرية، "إنها البلد اللي مالكش حد فيها" بتعبير المثل الشهير، وما يأخذه ابن تلك المدينة الكبيرة الحديثة على القروي هو عدم فهمه لتلك العلاقة، فالقروي يأتي تلك المدينة الكبيرة ليتمخط ويبول في الطريق، ويشخر وينخر أمام الأغراب المجهولين، ولا يراعى قواعد الملبس والمأكل والكلام، وكما أن هذا النقد لم يخل من معقولية ما، فلم يخل تعامل ابن المدينة الكبيرة، الأفندي، مع القروي من تعالٍ ما كذلك، فالبرجوازي لا يقدر كل معاناة القروي ويحدثه عن جمال الرسام والجسد البشري بينما يحدثه القروي عن معاناة الفلاحين مع مياه الري، كما يصور المشهد الدال في فيلم الأرض.

القرية تكتب ردها

ما بين 1919 و1952 بدأت القرية تكتب ردها من الباب الخطأ، لتنتج فكرًا مصريًا خاصًا يتقاطع مع الفاشية الإيطالية في رفضه لحداثة المدينة الكبيرة وحرياتها المدينية، ويركز نقده على تصوير ابن المدينة كمنحل فاسد الأخلاق، ويصرخ في وجه الحداثة قائلاً "عليكي لعنة الفلاح خديها من قلب فلاح ابن فلاح"، ويتكئ على موروثه الديني قائلاً " دمروا معي أوكار الرذيلة" في هذا النقد سيلتقي يوسف وهبي، مع محافظي الأحرار الدستوريين، حسين هيكل ورواية زينب، مع الحركات الأحدث مثل مصر الفتاة والإخوان المسلمين.
صدمة ابن البلدة الصغيرة من حداثة المدينة الكبيرة، صدمته من اغتراب الأفراد المجهولين، قادت البعض إلى تبنى المفهوم الحداثي للماركسية لنقد ذلك الاغتراب، بينما قادت البعض الآخر إلى الإرتكاس للموروث القديم المختلط بكل الأفكار لنقد هذه الحداثة، ويندرج حسن البنا القادم من الإسماعيلية، المصدوم في انفتاح المدينة الكبيرة، وسيد قطب القادم من الصعيد المصدوم من تحرر الأمريكية التي قابلها على السفينة المهاجرة إلى الغرب في بعثته الدراسية القصيرة، إلى البعض الآخر.
لكن ذلك النقد القروي الديني القائم على تقديس الموروث بقده وقديده، ورفض الحديث المديني بقده وقديده كذلك، لم يكن ليحدث دون نقد آخر، علماني المصطلح، تمثل في خطابات نظام يوليو، لم يكن لهذا الخطاب أن ينجح دون التحول الدال من بني وطني، المدينية الحديثة التي بدأ بها ضباط الانقلاب خطابهم الأول، إلى أخلاق القرية وقانون العيب التي أنهى بها السادات حقبته.

القرية الكبيرة

في المعركة القائمة ما بين المدينة الحديثة الكبيرة، بما تمثله من انفتاح وتحرر قائمين على احترام غرابة الأفراد وخصوصيتهم، وقانون هوية مجرد يقضي بأن كل سكان المدينة الكبيرة مواطنين، وبين القرية القائمة على هوية ضيقة لقاطنيها، ترفض الغريب وتناديه "بيا دلعدي"، وهي اختصار لهذا العدو، وتنظر لكل فكر قادم من الخارج على إنه شر مقيمـ انتصرت القرية وأخلاقها بالضربة القاضية، فبدلاً من أن تتحول القرى إلى مدن صغيرة تحمل نفس القيم المدينية الكبيرة، صارت المدينة الكبيرة مجرد قرية كبيرة.
هذا التحول فرض أشياء كثيرة في السلوك العام، أشياء جميعها لا تنتمي للياقة المدينة الكبيرة القائمة على الحياء واحترام مساحة الغريب المجهول المجاور، مع سيادة أخلاق القرية وكبير العائلة سيسود التبول في الشارع، ومعاداة النظافة العامة، ويصير الاستعراض بجسد الرجال طقسًا جماعيًا، فحين نصبح كلنا أهل وعشيرة لا نخجل من بعضنا البعض، لأن أهلنا سيدارون عيوبنا ولن يسمحوا بنشر غسيلنا الوسخ أمام العالم، حينها سيصير اللعب في البتاع (الحبرشة) طقسًا  جماعيًا، فكلنا أهل وعائلة، ليس بيننا خصوصيات، باختصار سيصير الفلح (نسبة إلى فلاحي القرية) هو الذوق العام.

القفص الزجاجي

في حلم من أحلامه السوريالية حلم أندريه بروتون بوجود الجميع في قفص زجاجي منفتحين على العالم لينهوا اغترابهم، ونسى بروتون إن خصوصيتهم تلك هي قيمتهم الأكثر حميمية والأكثر مدينية وتحضرًا.
غير أن لكل قاعدة شواذ ففي المدينة الحديثة، حين تسقط مجهوليتك تصبح داخل قفص زجاجي، تصبح مستباحًا، حين تغدو معروفًا ومسئولاً عامًا يصبح من حق كل سكان المدينة المجهولين، التدخل في حياتك الخاصة واللعب بأصابعهم في أسرارك الدفينة.
ما نساه مرسي ببساطة هو وجوده في القفص الزجاجي، لانتمائه لأفكار أخرى تعرف البشر على أنهم جميعًا أهلًا وعشيرة، ولا تدرك البرزخ القائم ما بين العام المستباح والخاص المصون، مرسي وتياره خارج تلك المعادلة المدينية الحديثة، إنهم يعادونها بقوة، ويرفضون حرياتها القائمة في مبدئها على احترام المجهول القادم، إن صراعهم مع المجهول Anonymous، يخافون من أقنعة بانديتا، لأنها أقنعة الفردانية المجهولة، وبالمقابل يعتبرون العام مشاعًا للطقس الخاص، قيم القرية لا تصلح هنا، فحين تغدو داخل القفص الزجاجي لا تصير مجهولًا ويحق لسكان المدينة الحديثة الكبرى، وهي مدينة ممتدة تتسع لتشمل العالم، التدخل في حياتك الخاصة ومراقبة حركة يدك على بتاعك، وحبرشتك من فوق البنطلون، البشر هنا ليسوا أهلك وعشيرتك، ولا ينقسمون إلى أصحاب ديانات سامية كما تعلمك أدبيات تيارك، البشر هنا أغراب مجهولون، يحترمون خصوصية الخاص وينتهكون بعنف الفضاء العام، سواء كان أفرادًا أم مؤسسات وكيانات، ينتهكون العام ليترك العام بعبصة خصوصياتهم، ولست بزوخاركا المعارض الفرد المقاوم للسلطة التي تخترق خصوصيته، أنت هنا السلطة التي تخرق خصوصيتنا بلعبها في شئونها الخاصة في ساحة فضائنا العام.
 لكن مرسي قادم من التيار المعاكس تيار يسمح لأهل العشيرة والقرية والقبيلة، وكبار رجالها وأحل حلها وعقدها باختراق الخاص الفردي وإخضاعه لمصالح القرية الكبيرة، يسمح بإخضاع جسد الفرد لمصلحة الجماعة، دون التنبيه على قائد الجماعة باحترام خصوصية جسد أمام الأفراد، فالجماعة فوق الفرد، والعام فوق الخاص.
It's not a big deal، كل ما في الأمر إن الحبرشة فارق دال ما بين الفِلح والمدنية، فارق دال ما بين البروتوكول أمام الأغراب وما بين الرحرحة أمام الأهل والعشيرة، it's not a big deal، كل ما في الأمر أن مرسي فوت على نفسه فرصة أن يكون طه حسين القروي المبعوث إلى فرنسا، المتشرب مدينيتها الحديثية، العارف ببرزخ الفارق ما بين العام والخاص، وفضل أن يكون حسن عابدين الفلاح القادم من القرية بصحبة بناته إلى لوكاندة عش المجانين، واختار أن يعدل جلبابه أمام الملايين ويحبرش في شئونه الخاصة قائلًا بلغة مسرحية " دا احنا هنضحك ضُحك، مش ضِحك لأ ضُحك".






[1] ميلان كونديرا، ثلاثية حول الرواية ترجمة : بدر الدين عرودكي.

[2] بياتريث سارلو، بورخيس كاتب على الحافة ترجمة : خليل كلفت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق