الجمعة، 5 ديسمبر 2014

عن الردح وقاموسه، في نقد مقال وليد فخري ومنهجه الاستسهالي

عن الردح وقاموسه
في نقد مقال وليد فخري ومنهجه الاستسهالي
ياسر عبد الله

بتاريخ 2  ديسمبر (كانون الأول) 2014 نشر موقع رصيف22 مقالًا يحمل عنوانًا طموحًا، (قاموس المشاجرات الكلامية الشعبية في مصر)، وهو طموح ربما يتجاوز حجم المحتوى نفسه وقدرة كاتبه وليد فخري، فالقاموس لغة هو "البَحْرُ أو أَبْعَد مَوضِعٍ فيه غَورًا، وجرى استخدام الكلمة، بعد أن جعلها الفيروزأبادي عنوانًا لكتابه (القاموس المحيط)، استخدامًا مجازيًا للدلالة على كل معجم أحاط ببحر اللغة، وهو ما يتجاوز بالطبع قدرة مقال سريع، يُقرأ على طريقة "اقرا واجري"، أما عن المشاجرات الكلامية الشعبية التي قرر الكاتب أن يحيط بقاموسها، فهي واسعة ومتشعبة ويدخل فيها أبوابٌ كُثُر، منها القافية والهجاء بالموال والتلاسن وغير ذلك، ولا تقف عند الردح الذي قرر الكاتب الابتداء به، ربما لأغراض سينمائية تثير خيالات زرعها الحسنان، حسن الصيفي وحسن الإمام، في أفلامهما التجارية.
ينتمي المقال ومنهجه لموضة سائرة، تقليعة تحويل مشاركات المنتديات وكلام المقاهي و"ما قال لي وقلت له" إلى مقالات خفيفة، مقالات تتحدث عن العادات والتقاليد الشعبية بنفس منطق اكتشاف مراهقي المدارس الثانوية لها، وإن كان ذلك مقبولًا كحكي مصاطب وحواديت مسلية فليس مقبولًا كمقالات تمتلك سُلطة ما على تأسيس مرجعية مستقبلية محتملة. تعتمد تلك المقالات على ترديد حكايات سائرة دون سند، أو إغفال سندها وتحويره إن وجد، وتخلط ما بين الشفاهي والمدون خلطًا شنيعًا تحت إدعاءات جمة من بينها الإدعاء الأشهر والأكذب عن عدم قياسية العامية المصرية وبالتالي عدم قياسية التقاليد الشعبية وكونها خارج التسجيل، وهو إدعاء جاهل، فالعادات والتقاليد والتعابير المصرية مسجلة في محاولات عديدة وقديمة، إما كتآليف ساخرة جمع فيها أصحابها طائفة من الأقوال والمشاهدات مثلما فعل علي بن سودون البشبغاوي (المتوفي سنة 1464م) في كتابه (نزهة النفوس ومُضحك العبوس)، أو كتب جمع فيها أصحابها الأمثال بغرض الدراسة العلمية، يذكر في هذا الباب جهود مستشرقين مثل لويس بوركهاردت وكتابه عن الأمثال المصرية المنشور عام 1818، ولحق بتلك الجهود الاستشراقية جهود مصرية في القرن العشرين نذكر منها كتاب أحمد تيمور عن الأمثال الشعبية ومعجمه الكبير للعامية المصرية وكتاب أحمد أمين عن العادات والتقاليد والتعابير المصرية، الذي ينقل منه كاتب المقال دون ذكره كمرجع.
يبدأ المقال بفقرة تهيئ متلقيه لما سيسمعه، فقرة من الردح السينمائي، ثم يردفها بقوله "متابعو الدراما المصرية كثيراً ما يسمعون العبارات السابقة وما شابهها في مشاهد مشاجرات النسوة"، وهو ما يحدد منهجه ومرجعيته، الدراما المصرية كمرجع للعادات والتقاليد، وهو مرجع زائف، لأن الدراما المصرية دأبت على تنميط الأحياء البلدية، حسب الاسم المستخدم ما قبل أربعينات القرن العشرين، لتقديمها لمتفرج فرنجي أو متفرنج من البرجوزاية المدينية التي سكنت الأحياء الكولونيالية الحديثة مثل مصر الجديدة والزمالك، وهو تنميط لحقه، فيما بعد قيام نظام يوليو 1952، تنميط آخر مختلف، قوامه تخلف العهد البائد، تمثل ذلك في الحبرة واليشمك والملاءة كملابس للحارة المصرية، وجدعنة ولاد البلد ودمهم الحامي، وهي كلها صفات تعتمد منهج التنميط الكاريكاتيري، بالنفخ في ثيمات موجودة وسط أشياء أُخر وإلقاء الضوء المبالغ عليها حتى تحتل المشهد بأسره، كان هذا ولا زال النهج المتبع في الدراما المصرية، التي يبدو إن الكاتب اختارها مرجعية له، وهي مرجعية مليئة بالمهاترات والخلط التاريخي، وخاصة عند مؤلفين معاصرين مثل أسامة أنور عكاشة، وملحماته الطويلة كليالي الحلمية، التي يضع فيها مقاهي عشرينات القرن العشرين بعوالمها ومطربيها وتخوتها في أربعينات القرن نفسه.
ثم يبدأ الكاتب في سرد مدخلاته دون الرجوع لأي من كتابات السابقين عليه، ودون ذكرهم لو  رجع إليهم مثلما أغفل ذكر كتاب أحمد أمين حين ذكر "فرش الملاية"، ويدمج الكاتب المنقول المتداول بتخميناته الخاصة، فالمنقول المتداول عن تعبير "يا عمر" وربطه بالفاطميين لم يثبت عليه دليل ما، وما ذكره الكاتب هو تفسير يجهل طبيعة العصر الفاطمي نفسه وطبيعة المذهب الإسماعيلي كمذهب باطني، وطبيعة القاهرة الفاطمية التي بُنيت كحصن للطبقة الحاكمة لم يختلطوا فيه كثيرًا بالعامة الذين سكنوا مصر العتيقة كالفسطاط والقطائع، ولم يجبروا العامة على اتباع مذهبهم الإسماعيلي، وهو ما أفاض في شرحه محمد كامل حسين في كتابه عن أدب مصر الفاطمية، ثم يرتكب كاتب المقال خطأً دالًا فيذكر المَرَا بالألف بدلًا من التاء المربوطة، وهو خطأ يدل على مدى علم الكاتب بقواعد الاشتقاق والتخفيف في العربية وعامياتها، فمن المعروف أن المرأة تخفف كمَرة وهو ما يعني خلو اللفظ المخفف من أي ألف مد، إلا إذا كانت ثقافة الكاتب إسبانية وقرر أن ألف المد هي علامة التأنيث مثل maestro y maestra، ثم يذكر مثلًا شعبيًا عن القحبة، وهي غير العاهرة، التي ترازيك وتجيبه فيك دون أدنى علاقة بما يحكي عنه، ولا أدرى هل قرر الكاتب جمع أمثال المشاجرات أم تعبيراتها أم الحكي عنها أم ماذا.
غير أن الكاتب لم يكتفِ بكل تلك النقائص، فقرر أن يزيد الطين بلة ويختم كمن طبخت طبيخًا فاستحسنته فتبلته بتراب، فاتحفنا، ربنا يكرمه، بتأثيل مبتدع ما أنزلت المعاجم به من سلطان للفظة شوباش، قرر حضرته أن شوباش هي تماثيل مصرية قديمة كانت توضع في قبر الميت، وهو منهج في التأثيل اللغوي المتداول في منتديات الإنترنت، يرد كل لفظة عامية لأية لفظة مصرية قديمة محتملة، علمًا بأننا إلى الآن لا ندرى على وجه اليقين حقيقة اللفظ عند المصريين القدماء وذلك معلوم عند دارسي المصريات لا عند رواد وكاتبي المنتديات، وإذا كان كاتب المقال ينتمي لهذا المنهج التأثيلي الحلمنتيشي فالأولى أن يعرف إن تلك التماثيل المعنية التي تدفن مع الميت لا تحمل أصلًا اسم شوباشي بل هي الأوشابتي Ushabti ، وهو ما كان سيعرفه كاتب المقال ببحث بسيط على محرك بحث، بكبسة زر كما يقولون.
بكبسة زر كان سيعرف الكثير لو أنه تابع مجهودات الباحثين في تأثيل الكلمات المصرية، فيذكر معجم تيمور الكبير الكلمة ويردها إلى شادباش العثمانية التي تعني تهاني، فالكلمة لم تستخدم في بدئها للردح، بل كان لها استخدامًا أصيلًا تحور بعد ذلك، لو كان كاتب المقال كلف خاطره لعرف أن شوباش تستخدم في محل "سمع هس هنحيي العريس" ونظرًا لانتشار الكلمة في وسط الآلاتية والعوالم، والعالمة هي المغنية التي تغني للحريم في الأفراح وهي غير الغازية التي ترقص في الشوارع والموالد على رغم الخلط الشائع بين الكلمتين، تم استخدامها فيما بعد في الأحياء الشعبية في المشاجرات الكلامية في محل "سمع هس هابهدل اللي قدامي"، لكن الاستخدام الأصلي لم يزل موجودًا ومسجلًا ومشتق منه ألفاظًا في دارجات مناطق مصرية عديدة منها أسوان، التي ذكر أحد الأصدقاء عند مناقشة المقال معه، أن كلمة "هنشوبش على العريس" تستخدم لتحية العريس بكلمات مسجوعة تبدأ ب"الورد كان شوك لكن من عرق النبي فتح".
هذا وقد أغفل المقال أشياء كثيرة لا زالت حية في ذاكرة ردح النسوان، مثل الوصف بالإبرة للدلالة على المرأة النحيفة، يوم كانت السمنة دليل عز، حسبما يذكر أحمد أمين، وربما تم إردافها بيا مصدية لزيادة الإهانة، وتعبير "يا مرة يا مُكنسة" الذي كان يستخدم كثيرًا في الاسكندرية، والمُكنسة هي المقشة المستخدمة في كنس التراب.  ربما كانت الحسنة الوحيدة التي اكتسبها كاتب المقال، الذي مزج ما بين الحكايات المتداولة واتبع منهج "ما قال لي وقلت له"، هو إثارة أعصابي، كأحد المهتمين بتأصيل التقليد الشعبي وتأثيل كلماته، للرد عليه وفضح هذا المنهج الاستسهالي للحديث عن تقاليد الشعوب، فهو مقال من مقالات "خُد واجري" و"ما قال لي وقلت له" المتداولة عن تقاليد وعادات وتعابير مصرية حية ولم تمت رغم تناسيها.
4 ديسمبر 2014

*تم التنسيق باستخدم الخط الأميري الصادر حسب نسخة المُشاع الإبداعي

تحديث بتاريخ 5 ديسمبر 2014: رفض موقع رصيف 22 نشر الرد وتحججت إدارة الموقع بسببين أولهما عدم قدرتهم على نشر نقد مقال كمقال وثانيهما –وهو السبب الحقيقي على الأرجح- إن مقال السيد وليد فكري المغلوط تجاوزت عدد زياراته ال 200 ألف قارئ، حيث أن من الواضح إن مثل هذه المواقع تفضل الترافيك على الحقيقة.

الخميس، 4 ديسمبر 2014

قطط الليل اللي من غير ديل

قطط الليل اللي من غير ديل
تعبير شعبي :
كانت أمي كلما أغمضنا عيوننا وتأهبنا إلى النوم تتحقق من وضع الغطاء حول أجسادنا الصغار، سواء كان الغطاء كوڤرتة الصيف أو بطانية الشتاء، ثم تودعنا إلى عالم الأحلام بعبارة أثيرة عندها "تصبحوا على خير تصبحوا قطط من غير ديل"، وكنت أتخيل نفسي كل ليلة مستيقظًا في صُبحي كقط أزعر، ولم أدرِ وقتها هل تعمدت أمي هذا الإرداف لمجرد غواية السجع أم أنها كعادتها لم تسل نفسها عن السبب، مكتفية بالرواية عن مجاهيل دعتهم "الناس اللي قبلنا".
ذكريات عائلية:
عبر السنين التالية تواترت إلى مسامعي حكايات كثيرة عن قطط الليل، بداية بالنهي عن ضرب قط الليل خشية أن يصيبك بدعائه أو يكون ملاكًا يطلب الصدقة فتنهره فينهرك عند ربه فُتفشخ فشخة المشدودة بين حبلين في فيلم فجر الإسلام، أو يكون شيطانًا، فالقطط حيوانات ماكرة منها الملائكة ومنها الشياطين ومنها ما دون ذلك؛ غير أن أغرب الحكايات لم تصلني من فرع والدتي من شجرة عائلتنا، ذلك الفرع الحامل لتراث القاهرة القديمة بحكم سكنهم الدرب الأحمر منذ القرن التاسع عشر، بل وصلني عن طريق فرعي الآخر، فرع والدي، حامل المزيج من حكايات الصعيد وحكايات ضواحي المدينة في بداية منشئها في أوائل القرن العشرين.
حكاية:
عن والدي عن أمه أنها حكت عن جارة لهم كانت تسعى كل صباح لتبحث عن ضاربي القطط بالليل، لأن ابنًا من ابنيها التوأمين صحا من نومه مضروبًا على رأسه بشبشب، كان تسعى كل صباح باحثة عن ضاربي القطط حتى غاب ابنٌ من ابنيها، صحت من النوم فلم تجده فسعت تبحث في كل دروب وحارات عزبة المسلمين في مصر الجديدة في ثلاثينات القرن العشرين عن قاتل قط الأمس فهو قاتل ابنها، ولم تجده وبعد أيام لم يجدوها هي نفسها.
حدث هذا في أيام بعيدة، ويحلف والدي بحلفانات المسلمين وغير المسلمين ويجزم بصحة الحكاية كما سمعها من والدته، ويحلف كذلك أنه، حتى اليوم، لا يعرفون مكان أم التوأمين أو مكان ابنها.