الجمعة، 13 مارس 2015

موضوعات حول CV

موضوعات حول CV
إلى پول لافارگ ومصطفى الناغي

من أجل عالم آخر مُمكن يجب على البشر أن تعي بديهية بسيطة The human is much bigger than his CV.
بشكل ما تعمل الرأسمالية الكوكبية ونظامها السائد على تقليصنا وتلخيصنا في مجموعة نقاط مُرتبة ومُعدة للقراءة والفحص من قبل رب عمل أو لجنة اختيار لطلبات راغبي الالتحاق بالمؤسسة، تلك النقاط المُرتبة لا تعدو أكثر من تلخيص مُخل لأيام حياتنا، نعرضه على مجهولين ذوي سلُطة اختيار ويمتلكون سُلطان إلحاقنا بالمؤسسة، قلت مؤسسة على إطلاقها دون تعيين ما إذا كانت مؤسسة عمل أم لا، في الحقيقة أعني مؤسسة الحياة ذاتها، لا مؤسسات الشُغل وحدها.
تستعير الحياة المُعاصرة في نمطها الراهن آليات عمل المؤسسة وإدارتها وحتى أشكال استبعادها، بشكل ما يتحول اليومي واللحظي والمُعاش إلى لائحة أجور.
لائحة الأجور تلك تكافئ الإنسان وتثمن -نقديًا- لحظاته المُعاشة، إنها تحول همساته وأفكاره ولفتاته العابرة إلى نقاط حافز في كشف الرواتب، وتعبر عن ذلك بشكل مستمر في نقرات زر الإعجاب سواء في وجوده الوهمي على الشبكة العنكبوتية، أو وجوده الآخر خارجها الذي لا يقل وهمية عن وجوده داخلها، بالأحرى يتحول الإنسان إلى عامل بأجر لدى نفسه والمحيطين، عامل يبيع قوة حياته لا عمله وحده ليحصل على نقاط تلخص أيامه وتدفع المقابل بنقرات إعجاب.
يُمارس الفرد المعاصر محاسبة نفسه إنتاجيًا، وهي عملية محاسبية لا تختلف كثيرًا عن جلسات الجمعيات العمومية لإدارة المؤسسات، وهي دورية بالقدر نفسه، تتحول أعياد الميلاد الشخصية ورأس السنة الجديدة من ذكريات جيدة إلى عبء نفسي وحرج في الصدور، عبء تقديم تقرير الإنتاج السنوي لشبح سلطان المؤسسة الحاكم.
يقلص المرء ذاته لمجموعة نقاط سريعة توضع على عجل في CV وهو مُطالب ألّا يكون هذا الطلب شخصيًا أو مؤنسنًا ويستحسن الكثيرون أن يخلُ طلب الالتحاق من صورة شخصية، لنرجع بالذاكرة كرة أخرى إلى حكاية آمور وپسيخة في مسخ الكائنات، لو أدرك المرء المُعاصر وجه ذاته لاختفى من دهاليز المؤسسة، يُوصم ذو الاختفاء بالفشل أو بتعابير مُرادفة، لا يحصل على نقرات إعجاب في دروب وجوديه الوهميين.
يقع الفشل المؤسسي، وأعني مؤسسة الحياة، بصور شتى لعل أكثرها شيوعًا ما يسمى -بين أقواس عريضة- بالاكتئاب، بشكل ما ليس الاكتئاب سوى رؤية وجه النفس في مرآة بلا رتوش، رؤية النفس المُحرم على أصحابها ادراكها.
الاكتئاب، الذي لا يُثمن كثيرًا بالطبع داخل أروقة المؤسسة وجدرانها المُعاشة، يدعو الملتحقين بها لممارسة إحساس الشفقة تجاه العامل الأجير -وكلنا أجراء- المُصاب به، ذاك الاكتئاب ما هو إلا اكتشاف الإنسان المعاصر لحقيقة وجوده المعاصر الوهمي بكل دروبه، الاكتشاف الذي يُقمع عن طريق دعوات الهروب منه إلى داخل جدران المؤسسة وبراحها الزائف، الاكتشاف الذي يُحارب بانغماس أكبر داخل مؤسسة الحياة، انغماس يكافؤ بنظرات استحسان وبنقاط تُضاف للائحة الأجور والحوافر الانتاجية الحياتية، يُكافؤ بنقرات زر الإعجاب الحياتي، مقابل نظرات الشفقة والأسئلة السخيفة "مالك؟! مش عاجبني" التي تُعاقب عدم الانغماس في وهمية براح المؤسسة.
لا تعي لوائح أجور المؤسسة ونقرات أزرار إعجابها بالتراكم الأكثر أصالة، بالأحرى لا يعنيها التراكم الداخلي الذي لا ينتج نقاطًا سريعة تصلح لاختزالها في CV جديد، هذا التراكم الأصيل يستبدل ويُبين براح أرحب من رحابة وهمية فضاءات المؤسسة، لذا على المؤسسة الحياتية واللاحقين بها وراغبي الالتحاق تجاهله وإخفاؤه بغض البصر عنه.
ليستعد الإنسان المُعاصر وجوده عليه الاستعداد لتقبل بديهية بسيطة أخرى، حقه في كسله الخاص وعطالته لممارسة تراكمه الداخلي، حقه في براح الذات لا براح الصفات المكتسبة من وهمية أجور وإعجاب المؤسسة الحياتية.
(الحق في الكسل) كبيرة الكبائر عند مؤسسة الحياة، ملعونٌ من قِبَل قطبيها الرأسمالي والشيوعي على حد سواء، لنذكر پول لافارگ وكتابه المؤسس لأدبيات هذا الحق، الذي ما أن قرأ مسوداته الأولى صهره كارل ماركس حتى صرخ "لو كانت تلك هي الماركسية فأنا لست ماركسيًا".
من أجل استعادة الحق في الكسل وممارسة التراكم الذاتي، على المرء إدراك حقه الشخصي في أن يكون غير ذي نفعٍ داخل المؤسسة.
اللانفعية، المُصنفة كجريمة في بنية العقل المؤسسي المؤسس داخل المؤسسة والراضع الحياة من بزها، هو على النقيض تمامًا من جملة تفسيره المؤسساتية "أن تصبح عالة على غيرك"، اللانفعية هي فقط إعلان الإنسان أحقيته في الفشل، أحقية الإنسان في الحصول على ختم (مرفوض) من قِبَل لجنة اختيار الملتحقين بالمؤسسة الحياتية، أحقية الإنسان في CV فارغ سوى من وجهه، أحقية الإنسان في تمزيق طلبات الالتحاق وحرقها، أحقية الإنسان في الفشل والسقوط خارج جنة المؤسسة الحياتية، أحقية الإنسان في سُكنى عدنه الداخلي الخاص اللانافع لسواه.
"أنا حياة جاك البائـسة" يُردد المستلبون -وكلنا مستلبون- داخل المؤسسة الحياتية دون أن يدركوا أن البائس حقًا هو تقييم المؤسسة وسلطتها وسلطانها واللاحقين بها وراغبي الالتحاق، البائس حقًا هو تحول براحات الحياة لمجرد نقاط وسلع نحصل عليها بكروت ونقرات أزرار الإعجاب، تحول الحياة لمجرد نقاط تُكتب على عجل في طلب الالتحاق بوظيفة، من أجل أن يسلب الإنسان ذاته من أصلها، يتزوج أي عابر لإكمال طلب الالتحاق، يُحب- وعلينا الحذر بشأن تلك الكلمة- لإكمال طلب الالتحاق، يُقَبِل لعرض تلك القبلة كصورة في مواقع التواصل الاجتماعي للحصول على نقرات زر الإعجاب -وهي صورة النقد الإلكتروني الجديد- يعرض قبلته للحصول على حافز الإنتاج داخل مؤسسة الحياة، أنظر كيف تسارع إحداهن لكتابة تغريدة بإعلان القبلة التي حصلت عليها قبل حتى أن يلحس شريكها لعابها من على شفتيه.

على الإنسان أن يكون لا نافعًا، داخل مؤسسة الحياة التي تستلبه، ليكون.
على الإنسان أن يحرق طلبات الالتحاق كلها وإن كان لا بُد من كتابة طلب واحد فليكتب كلمة واحدة …. أنا.

الأربعاء، 11 مارس 2015

عن الكتابة الآلية

عن الكتابة الآلية

ليست الكتابة الآلية بشيء مفزع لكاتبها، هي نشوته وانتشاؤه وأورگازمه الخاص، لكنها مفزعة لقارئها باغتصابها لعقله الباحث عن دعة واستقبال مسترخٍ، الكتابة الآلية لا تُقرأ في حالات من حالات العقل، ولا تُقرأ سوى على عجل واستعجال، حالتها الأمثل ما بين أرق وصحو أو بعد المرة السابعة لجنس المرة الأولى مع امرأة قابلتها عرضًا ودون حتى أن تعرف اسمها الأول نكتها.
الكتابة الُمنمقة بنت الفاشية ووليدتها الفاشية، وليدة العقل المنمق، الكتابة الآلية السوريالية وليدة ثورة الوعي ضد العقلية، وليدة السباحة الراقصة على سطح محيط الجنون.
أيتها الفوضى المحببة كم أحبك أيها الجنون كم أنتِ ثورة وفعل عصيان مدني مسلح.
لا يرون سوى الزنا دون أن يعرفوا الحب كما قال بنجامين بيريه.
يرونه هوسًا ونراه جنونًا ثائرًا ولا يرون النشوة الكامنة خلف تلك السباحة.

*تم التنسيق باستخدام الخط الأميري.

الثلاثاء، 10 مارس 2015

كشري العدس الأصفر

كشري العدس الأصفر

لا يعرف أحدٌ على وجه الدقة عام مولده، فهو ابن العائلة الكشرية الأصغر ومحبوب الأسرة المُهمل المتروك، يبدو هذا جليًا حين نعرف أن مؤرخي الأطعمة الموقرين وجهابذة المطابخ لا يجمعون على اعتباره من أفراد العائلة، فالبعض لم يسمع به قبلًا والبعض الآخر يجزم إنه اختراع دخيل على تلك العائلة القديمة الراسخة، أما البعض الباقي فيقررون إنه كشريٌ أصيل أبًا عن جدٍ وكابرًا عن كابر.
يبدو هذا الأخ الأصغر ذو العدس الأصفر دخيلًا، ذاك ما يؤكده اختلاف الآراء حوله، لكن تؤكده عدة مظاهر أُخَر، فإذا كان من المُرجح تاريخيًا إن العائلة الكشرية بفرعها الكبيرين، كشري العدس الأسمر (صاحب الجبة) والمجدرة، قد نشأت إبّان غزو العثمانلية للشام ومصر، واضمحلال مجتمع المماليك، وانفصال الثقافتين، المصرية والشامية، نظرًا لانشقاقهما كإياليتين مختلفين في السلطنة، الانشقاق الذي تبعه انشقاق الكشري الأصل – لنسمه الحلقة الأولى احترامًا لنظرية التطور- إلى كشريين، أحدهما يُصنع من عدس وأرز والآخر يصنع من عدس وبُرغل اصطلح على تسميته بالمجدرة، والثابت تاريخيًا كذلك عند مؤرخي المطابخ إن الكشري أصيل وراسخ وهو ما يؤكده انتشاره، التجاري والمنزلي، في محيط القُطر كله، وتعززه ظاهرة انتشار سر صنعته، وتعززه ظاهرة أخرى يصطلح مؤرخو الأطعمة على تسميتها (ثبات الإضافات)، وثبات الإضافات هي إحدى الظواهر التي تؤكد قدم صنف ما من الطبخ وتقعيد طرق صناعته المختلفة، ويُرجح إنه في مرحلة ما من عُمر كُشري العدس الأسمر تم الاتفاق على مكوناته وطرائق صناعته وإضافاته، يذهب البعض أن ذلك حدث أثناء حكم محمد علي باشا ودولته الكبرى، وهو ما انعكس في توحيد الإضافات جميعًا من ثقافات شتى تجمعها الدولة الكبرى مثلما يجمعها الصحن الواحد، الورد (البصل المقلي) والدقة (الثوم المدقوق بالخل) المصريان والشطة السودانية والحمص الشامي، وهذا التوحيد من المؤكد رسوخه والاتفاق عليه فلا خلاف بين أي صانع كشري على مكوناته الإضافية، سواء كان صانعًا منزليًا أم سوقيًا.
لكن تلك الظواهر تنعدم عند الأخ الأصغر كشري العدس الأصفر، ويُرجح أحد المؤرخين الراسخين في الطبخ أن كشري العدس الأصفر ظهر إبّان الحكم الخديوي والتدخل الأجنبي في مصر، فهو ابن مدينة كوزمبوليتانية تحولت عن أكل العدس الأسمر إلى أكل عدس آخر قادم من ثقافة متوسطية هو العدس الأصفر ذهبي الوجنات والجِبّات -ويُرجح أن هذا العدس الذهبي كان محصورًا قبل ذلك في صناعة حسائه الشهير المنتشر في شرق المتوسط وجنوبه وشماله- ويُرجح ذلك المؤرخ أن اختلاط أبناء المدينة الكوزمباليتانية، وهي ناتج أصيل للمرحلة الخديوية، أدى إلى اختيار هذا العدس الذهبي لصناعة كُشري بديل مُخصص لهم وحدهم دون أبناء الفلاحين، ويعزز تلك الفرضية اقتصار كشري العدس الأصفر على المنازل دون الأسواق، وهو ما أدى إلى غياب عنصر ثبات الإضافات، حتى داخل المنزل الواحد، فمرة يُصنع وبجانبه سلاطة خضراء ومرة أخرى يصنع وبجانبه طماطم مُخللة في حين يكتفي البعض به وحده أو بطبق مخلل بلدي يصاحبه.
كل ذلك يؤكد حداثة هذا الأخ الأصغر مقابل رسوخ أخيه الأكبر، لكن بعض المؤرخين المتأثرين بالمادية التاريخية يؤكدون أن العدس الأصفر هو الأصل الذي تمت إزاحته حين انتشر العدس الأسود، ويستندون في ذلك إلى انتشار شُربته مقابل انحصار شُربة الآخر، ويرجعون ظهور الكشري الآخر لأحد مرات انحسار الفيضان ما أدى إلى ضرورة استبدال عدس الرخاء الذهبي بعدس الشقاء الأرضي.
لا أحد يعرف على وجه الدقة تاريخ ميلاد الإثنين، ولا أحد يستطيع الجزم بقرابتهما الأكيدة رغم اشتراكهما في وحدة التصنيف الكُشري العام واتفاقهما في ثيمة الطبخ.

*التنسيق باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي.