الأربعاء، 15 أغسطس 2018

شبعة من بعد جوعة | حديث شخصي عن الجوع



ﻻ أدري متى سمعت المثل من أمي، كان ضمن أمثال عديدة تستخدمها كثيرًا مسندة إياها لمن قبلنا، لم يخل كلامها أبدًا من صيغة اللي قبلنا قالوا يتبعها اقتباس ما، بدا اﻷمر كما لو كان منطقها الشخصي الدائم للحديث والفهم. ظل المثل معي مثل أمثالها الكثيرة التي حفظتها منها رغم رحيلها في طفولتي المبكرة، تفكرت فيه كثيرًا، جادًا مرة وساخرًا مرات، وضحكت من الشبعة بعد الجوعة إذ أن كل شبع هو من بعد جوع بالضرورة، ورغم تفلسف بعض الرفاق في حياتي اللاحقة على سماعي للمثل حول تناقض المثل الشعبي وطبقيته ﻻ أذكر أن أمي استخدمته أبدًا للتلميح إلى أصل فقير لشخص ما، بل قالته دائمًا للحط من قدر أشخاص تعالوا وتكبروا بعد فقر قديم.

في صيف يشبه صيفنا اﻵني رحلت أمي منذ ٢٦ سنة، مضت ثلاث سنوات واكتشفت كلمة الجوع مرة أخرى، في صيف يشبه صيف موتها، في جزء صغير من سفر ديني ضخم اشتريته من بائع الجرائد رغم عدم فهمي للعنوان من أول نظرة، قرأته جع الجوامع ولم ألمح الميم المعلقة بين الجيم والعين المستخدمة حلية للخط، كان الجزء الخامس والستين من السلسلة أو رقم قريب منه، واختص ببعض حرف النون، فيه قرأت للمرة اﻷولى حديث "نور الحكمة الجوع".

أذكر ذلك الصيف والصيف الذي تلاه جيدًا، رحلة اكتشافي للتراث الديني التي حملتني لجوامع اﻷولياء تارة ودروس السلفيين تارة أخرى، ربما كان جمع الجوامع ونسخة محققة من الكبائر للذهبي من أوائل الكتب التي شدتني لعلم الحديث وتخريج اﻵثار وتوثيقها. رغم مضي أكثر من عشرين عامًا على قراءتي لحديث نور الحكمة الجوع ظل عالقًا بذاكرتي التي لم تهتم كثيرًا بإسناده ومدى صحته أو ضعفه، الصحة والضعف والتحسين والعنعنة والإرسال والتوقيف مصطلحات عرفتها في السنة التالية وحاولت بوعي الصبا الساذج دراستها، بشكل ما مثلت أول خطوات درب اكتشافي لنقد الدين السائد مثلما كان نور الحكمة الجوع بداية درب اكتشافي لمركزية الزهد في بعض الدين غير السائد.

في سنوات لاحقة ابتعدت عن درب علم الحديث والنظرة السلفية للدين بشكل عام، حملت معي دروسها المستفادة وحملتني مركزية الزهد وامتداح الجوع وذم الشبع من ضمن أشياء كثيرة إلى أدبيات اليسار. اكتشفت اليسار في مراهقتي وأثناء دراستي الثانوية بسبب حال والدي الذي عمل حتى سن المعاش دون أن يترجم عمله إلى مقابل مادي كنت أرى من يملكونه في سن أصغر بكثير، عدم امتلاك والدي لسيارة بعد ٥٠ سنة من العمل منذ سن العاشرة حملني بسهولة لنظريات فائض القيمة عند ماركس، ربما كان هذا سير العقل لكن سير الوجدان حمل معه تعلق بالزهد ومدح الجوع. اكتشفتُ في المراهقة أقوالًا أخرى عن الجوع في التراث الديني، كان أثر "ما متع غني إلا بما جاع به فقير" أحفر في الوجدان من نظريات فائض القيمة التي ساعدت فقط على إخراج مكنون الصدر في جمل منطقية متفلسفة، لكني لم أذق الجوع فعلًا إلا لاحقًا.

في منتصف المراهقة شاءت اﻷقدار ومعها مكتب التنسيق أن ألتحق بجامعة إقليمية في الصعيد، بجرة قلم وبعض مشاوير حكومية كان بإمكاني تعديل الترشيح لجامعة داخل القاهرة لكني مضيت في طريق الطالب المغترب، لحظة فاصلة أثرت في وعيي وتجاربي. ذهبت إلى الجامعة دودة كتب وقارئ للماركسية غير ملتحق بأي تنظيم، عرفت الجوع في شتاء وربيع متتاليين في أواخر سنوات الدراسة، كنت أسكن مع زميل يسافر أغلب الوقت وكانت نقود حوالات البريد تتأخر ﻷسباب كثيرة فأقضي أيام التأخير مفلسًا تمامًا، في ذلك الشتاء الجنوبي البعيد تأخرت فلوس إحدى الحوالات أيامًا كثيرة كنت أتسكع خلالها كل صباح ﻷتغلب على أرق الجوع، وفي بعض الصباحات كنت ﻻ أخجل من مد يدي في التراب المتراكم أمام بعض محلات اللب والفول السوداني لوضع ما وقع في الأرض من بعض ما حمصته في فمي، لقيمات أو أصغر بكثير كانت تدخل جوفي مثل وليمة لطيور البر. في الربيع التالي عرفت فترة أخرى من الجوع مع تباشير زرع برمهات عشت فيها أيامًا ﻻ يدخل فمي فيها سوى ترمس وشاي بنصف معلقة سكر، حالة مقاربة للإضراب عن الطعام مصحوبة بكثير من التأمل الذي ذكرني بأثر نور الحكمة الجوع.

في سنوات تالية عرفت الجوع الاختياري ومارسته، كنت أدخل فترات قصيرة من الانعزال وقلة الطعام، منذ ١٠ أعوام امتنعت عن أكل اللحوم والطيور مكتفيًا باﻷسماك وحدها التي امتنعت عنها مؤخرًا، دون دعاية إنترنتية خاوية عن النباتية كأسلوب حياة أكثر كَولنة. تصالحتُ مع صيام رمضان بوصفه طقسًا جماعيًا في فترة تأمل أكثر منه دينًا ومذهبًا، ظل إيماني بالجوع وبالزهد وبأفكار اليسار التي حملتها معي دون انتساب تنظيمي ضيق سوى فترة قصيرة. هذا الصباح خطر ببالي حكمة شعبية تصلح لحصد الإعجاب الوهمي في صفحات إنترنتية رديئة وتصلح للتأمل الطويل رغم ذلك، "اوعى تصدق حد ما جاعش واوعى تصدق حد اتعود على الشبع".

تذكرتُ الجوع بسبب جدل رأيته يوم أمس على طرفين، ضجيج إنترنتي ذكرني بسنوات لاحقة لاكتشافي الجوع، أيام معرفتي بيسار التنظيمات وأوساط وسط المدينة بكل تقسيماتها وتعليباتها، جدل متكرر كل عام بعد فض اعتصام رابعة، قرأت أسماء كنت أعرفها شاركت في التحريض، بعضها شبع من بعد جوع وتعود على الشبع. في الطرف اﻵخر لمع اسم أحد العابرين الراحلين الذي غاب عن ذاكرتي منذ عقد ويزيد، رأيته منذ أيام على الشاشة في دور مخبر في أحد اﻷفلام. تذكرت حين كنت أراه على المقهى وأجلس معه في بعض اﻷحيان، استرجعت أحاديثه عن التمثيل وسويسرا وسجائر الجيتان، كلمات غير مترابطة علقت بذاكرتي العشوائية. نسيت اسمه حتى علمت بموته ورأيت نعيه وكلمات غاضبة عن من يتاجر بموته من رفاق أفكار مفترضة تركوه للجوع وشبعوا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق