السبت، 8 فبراير 2014

عن فريد الأطرش واستعراضات البلدان

عن فريد الأطرش واستعراضات البلدان

في أفلامه السينمائية ما قبل عام 1954 (صعود عبد الناصر للسُلطة)، التي تزامنت مع ظهور إسطوانات LP ذات الوجـهين التي بإمكانها تسجيل 45 دقيقة كاملة، لعبت هذه الأفلام نفس الدور الذي لعبته فيما بعد شرائط الكاسيت كوسيط مادي مناسب لإصدار ألبوم غنائي ونشره لجمهور عريض، حبكة الأفلام كلها بسيطة، تعتمد على مواقف ضاحكة تحدث للبطل الرئيسي (فريد الأطرش) وللممثلين المساعدين (إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي بشكل أساسي) يتخلل تلك المواقف طقاطيق واسكتشات راقصة لتنتهي بنجاح البطل في إخراج الاستعراض النهائي بصحبة البطلة المغنية (صباح، نور الهدى) أو البطلة الراقصة (سامية جمال، ليلى الجزائرية).
في بعض استعراضات النهاية (بُساط الريح، بين الشرق والغرب) يجمع فريد الأطرش داخل إطار الاستعراض الواحد ألوانًا موسيقية من كل بلد[1]، لكن هذا الجمع ليس جمعًا تخليقيًا يمزجها جميعًا في بنية واحدة متداخلة ويصنع من الألوان المختلفة لونًا جديدًا، بل هو مجرد تجميع تجاوري لمشاهد متتابعة، لا يربط بينها سوى إنها من تلحين وغناء البطل في "أوبريت" مُرتجل.
في استعراض بُساط الريح (فيلم آخر كذبة) واستعراض غنا العرب (بُلبُل أفندي)، والاستعراضان من كلمات بيرم التونسي، نلمح الصورة المصرية النمطية للمشرق العربي (سوريا ولبنان، العراق) والمغرب العربي (تونس، مراكش) على حد سواء، تزامن الاستعراضان مع حرب فلسطين وتنامي المشاعر العربية تجاد إتحاد ما أو وحدة لا يغلبها غلاب، لكن الاستعراضان يحملان كذلك لونًا ما من "الاستشراق" المصري الخاص تجاه بلاد العرب وتجاه الهوية المصرية نفسها، ففي استعراض بُساط الريح، الذي شارك فريد الأطرش الغناء فيه المطربة عصمت عبد العليم، يسمح البُساط المستعار من ألف ليلة وليلة في إخراج الاستعراض داخل القالب الاستشراقي الألف ليلي، فبغداد "بلاد خيرات بلاد أمجاد" بلاد بدوية يحمي أهلها الأرض بالسيف، أما تونس الخضراء فهي طربوش وعباءة ومركوب ودفوف إيقاعها أقرب للدف النوبي منه لدفوف المغرب العربي، ويختتم الاستعراض بالعودة إلى مصر، الممثلة في فلاحة راقصة، وإن كانت الرقصة ضرورة فنية أملاها وجود الراقصة سامية جمال في فيلم آخر كذبة، فالرقصة نفسها واللباس الفلاحي موجودة في استعراض "غنا العرب" دون وجود بطلة راقصة في الفيلم، الذي يختتم بعرض أزياء نمطية مفترضة لبلاد العرب على خلفية غنائية "غنا العرب كله طرب"
يبدو الاستشراق الذاتي أوضح في استعراض بين الشرق والغرب (كلمات: صالح جودت من فيلم أحبك إنت)، غرض الاستعراض الفني إظهار قدرة الملحن على التلحين باستخدام كافة الألوان الغربية والشرقية، لكن هذه القدرة تتوقف عند التقابل لا التداخل، ما بين غصن (كوبليه) يخضع للون شرقي يغنيه فريد الأطرش وبين غصن آخر يخضع للون الغربي تغنيه عصمت عبد العليم، وفي الاستعراض يظهر البطل بالزي البدوي كما ظهر في اللوحات الاستشراقية عند ديفيد روبرتس وآخرين، ثم يسمع المطرب الشرقي ممثلة الفن الغربي في تلك المُناظرة الفنية "ألحان عراقي ولُبناني" ليست سوى موالًا متمصرًا كل علاقته بالمشرق كلمات مثل "أوف" و "يا بايا" لتحدث المُصالحة التي تختتم الاستعراض والفيلم لأن "الفن دنيا الخلود"، وتحمل هذه المصالحة صدى ما لتصور الانتلجنسيا المصرية في تلك الفترة عن هوية مصر المزيج ما بين الإصالة (الشرقية) والمعاصرة (الغربية)، وهي نظرة مستمرة إلى الآن بشكل أو بآخر.
تستمر الصورة الاستشراقية في استعراض لا يستخدم ثيمة استعراض غناء البلدان، ففي أوبريت فارس الأحلام (كلمات: مأمون الشناوي من فيلم لحن حبي)، تخرج القصة من محيطها الأوروبي إلى قالب ألف ليلي، ويبدو هذا الانتقال منطقيًا لانتماء كل من حكايات ألف ليلة وليلة والحكايات الشعبية الأوروبية مثل سندريلا إلى ماضٍ أسطوري لا تاريخي، هذا الأوبريت أنضج فنيًا من الاستعراضات السابقة، فهنا لا تتجاور الألوان المختلفة بل تتداخل، ويتوزع الأداء الغنائي ما بين الممثلين كلهم، مما يمنح المُلحن حرية إدخال جمل لحنية طريفة مثل الجملة التي تصاحب أداء إسماعيل ياسين "يا بنات اسمعوا وعوا وعوا"، ينتهي الأوبريت بغناء ثنائي ما بين البطل الأمير وبين حبيبته الفقيرة، في الأغنية الأخيرة يستخدم فريد الأطرش أسلوبه المُمَيَز والمُمَيِز لهذه الفترة، حيث يؤدي موالًا لا هو بالمصري ولا هو بالشامي، فهو الشامي المُتَمصر كما تتخيله الصورة المصرية النمطية التي يمكن اعتبارها نوعًا من الاستشراق المصري الخاص ناحية بلاد المشرق العربي[2].
ربما تحمل هذه الأفلام، بألحانها الجميلة وثيماتها المتكررة ملامح خاصة لنظرة ثقافة الجماهير في مصر تجاه الذات والآخر، فالهوية المصرية المركزية تبدو قادرة في هذه الأغاني على تطويع كل الألوان المختلفة سواء كانت شرقية (الشام والعراق والمغرب العربي) أو كانت غربية (سامبو، رومبا ... إلخ)، حتى وإن كانت هذه الألوان موضوعة في صورة نمطية "استشراقية" لتناسب ذوق المتلقي المصري.



[1] كانت "استعراضات البلدان" ثيمة في الكثير من أفلام الفترة واستخدمها المُلحن علي فراج بصورة كوميدية في استعراض "الواصي" (كلمات: فتحي قورة من فيلم فيروز هانم)، واستمرت هذه الثيمة ليستخدمها فيما بعد المُلحن منير مراد في قلبي يا غاوي خمس قارات من فيلم مطاردة غرامية، وفي "قلبي يا غاوي خمس قارات" يضع  منير مراد رقصة إسبانية لمجرد استعراض قدرته على استعارة جمل لحنية شعبية إسبانية كما يتخيلها الذوق المصري دون وجود أي دور لإسبانية في الفيلم.
[2] استمر هذا اللون فيما بعد في كثير من ألحان الرحبانية، وعلى الرغم إن المشروع الرحباني يقوم في جزء منه على صياغة هوية موسيقية "لُبنانية" مقابل المركزية المصرية، فإن هذه الهوية الموسيقية مُصاغة عن طريق نظرة المركز المصري نفسه وتنميطه للشام بصورة عامة والموسيقا اللبنانية بصورة خاصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق