الاثنين، 17 فبراير 2014

عشر أطروحات عن طبيعة الميتاسرد جورج فراگوبولوس

عشر أطروحات عن طبيعة الميتاسرد (وعرض مُضمن –بين حاصرتين– لرواية سلبادور بلاسثنثيا[1] "ناس من ورق")
جورج فراگوبولوس[2]
ترجمة : ياسر عبد الله

(تمت الترجمة في صيف 2009)




اقتباس من بورخس كملخص بسيط "من المقبول أن تظهر تلك الملاحظات في وقت ما، وربما في أوقات عدة، إن النقاش حول جدتها يهمني أقل ما تهمني حقيقتها المحتملة ".
( لنبدأ بـ ... تورية ).

( I )

الميتاسرد هو كذبة مزدوجة، فكثير من قوة جماليات الرواية يكمن في طبيعتها المتناقضة، تقدم الرواية نفسها كخيال ملئ بالحيوية يقوده صدق محتمل مقنع، وتأخذ الرواية شكلها حقًا في رسم الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال؛ الميتاسرد ببساطة هو الامتداد الطبيعي لهدف الرواية الأساسي، حكي خيالي يمكنه أن يكون مقنعًا لدرجة أن يخدعنا ونقبله كحقيقة.

( " لقد خلقت هي بعد زمن الأضلاع والحمأ المسنون، بمرسوم بابوي لن يخلق بشر بعد الآن من التراب أو من نخاع العظام".
من بين كل الأفكار السارة التي يطرحها سلبادور بلاسثنثيا في روايته  ناس من ورق The People of Paper ( 2005 )، لا أجد تورية أكثر إمتاعًا من تلك التورية الموحية في الجملة الثانية، تعرض لنا رواية بلاسثنثيا الميتاسردية عالمًا تحول عن قوة المراسيم البابوية إلى قوة الورق[3] التغييرية، عالم لم يعد مكونًا بعد الآن من إله يلهو، بل مكون من اللغة ذاتها، فهو عالم من صنعنا، إننا نحيا الآن في زمن المراسيم الورقية[4]).

) II )

نحن نقع في حب الجزء الحكائي المكون للكذبة قبل أن نُعنى بإثبات حقيقة هذا الجزء الحكائي، وذلك ملمح أساسي لكل الميتاسرد.
مالرو : " تحكي قصة قديمة أن سيمابو [5]Cimabue  تاه إعجابًا حين رأى الولد الراعي جيوتو Giotto  [6]، لكن طبقًا للروايات الحقيقية، لم يوح أبدًا الخروف لجيوتو بحب الرسم، بل كان ذلك عند رؤيته للمرة الأولى لوحات فنان كسيمابو".
إن الميتافيزيقيين، سواء اتخذوا سمت الفنانين أو اللاهوتيين، دائمًا ما يعيرون انتباهًا  لتلك الأشياء التي يعرفون كذبها أكثر مما يعيرون للعالم الذي تمثله هذه القصص.

( إن " هي " المشار إليها في السطر الأول من الرواية هي إمرأة من ورق، حواء من زمننا، ميرسد دي بابل Merced de Papel، وهي من إبداع اول جراح أوريگامي في العالم، أنتونيو، وهو كفنانين كثيرين مصاب بحسرة الفقدان – في حالته ، موت قطته الحبيبة – تحول أنتونيو إلى الورق وقدراته المانحة للحياة ليداوي جرح قلبه، فيكتور فرانكشتين من زمننا، مكونًا " ثلاثة عشر عضوًا مثاليًا من الورق والأوعية الدموية والشرايين من مناديل الورق " ليبعث قطته الحبيبة من موتها.
ميرسد دي بابل، ابتكار آخر من ابتكارات أنتونيو، هي شخصية ثانوية في رواية بلاسثنثيا لكنها تعبر عن حقيقتها.
ميرسد دي بابل – التي عمدت باسمها ذلك من قبل ميرسد أخرى، فتاة صغيرة تخلت عنها أمها التي تحمل نفس اسمها (الميرسيدات والفقدان الذي يمثلن مضاعفاته في السرد، هو تقدير للنموذج المألوف للحضور والغياب عند جارثيا ماركيث)– هي تصور أتى للحياة لأنها هي الحياة، تقول هي ( ميرسد دي بابل ) : " بعد أن تحسست ذراعيّ، قالت (ميرسد الصغيرة) إنني كنت دافئة ولم أكن مجرد لفة رطبة من جريدة الصنداي كما كانت قد توقعت".
إنها ليست مصنوعة من الورق –ببساطة– لكن من الحياة التي يمثلها هذا الورق، ولسانها المجروح –قطعة الورق– الذي سيلوحه لاحقًا حبيب ميرسد دي بابل بعد محاولة كارثية لممارسة الجنس الفموي هو حقيقة بصورة مفزعة أيضًا.
" شق رامون باريتو Ramon Barreto لسانه بالطول وهو يحاول تذوق داخل ميرسد دي بابل، وترك بقعة موحلة من الأحمر المسود بين أفخاذها"، ويصعب إيجاد إستعارة أفضل عن اللغة التي تجرح العاشق والمعشوق معًا.)

( III )
لا تخدعنا الحقيقة أبدًا، تخدعنا فقط الأكاذيب التي نسجناها حول الحقيقة، تلك أيضًا إحدى حقائق الميتاسرد.

( يخلق بلاسثنثيا ما يمكن وصفه بعالم مابعد مسيحي، " ناس من ورق " هي أرض يباب مفروشة بالأيقونات والتيمات المسيحية، حتى ولو كانت تلك التيمات أخضعت لمعتقدات شكل آخر من التدين : السرد الميتاسردي.
يقدم بلاسثنثيا لنا عالم المؤلف كالإله، مصارعون مهزومون موصوفون عبر سجلات القديسين، أشخاص مصدومون بالحزن متورطون في جلد الذات لينسوا إحبائهم الضائعين، خاضعون للآلام البدنية ليهربوا من الآلام العاطفية، رهبان ساكبون للدمع تخلوا عن أديرتهم التي لم تعد تجدي نفعًا، ببساطة تحول الرب وطرقه تحولاً جذريًا، ولم يعد مألوفًا أو حتى ضروريًا، وذلك هو الحد الأقصى من موضوعة فرويد عن الخارق للطبيعة، تفسخت دعائم البيت وبدا غريبًا، وغدت الحقيقة ذاتها خيالاً مألوفًا وأصبح بإمكاننا أن نلمح خلف القماش المزركش البديع اليد التي غزلته على النول.)

( IV )

يعامل الميتاسرد اللغة كالشيء الأكثر قداسة، لكن تلك الأفكار تظل على تناقض مع أنه لا شيء مقدسًا حقًا بقى سوى الحكي، فالحكي Fiction هو آخر فعل لغوي مقدس نملكه، إن الميتاسرد يسعى لصنع كتبًا مقدسةً لعصر لا يريدها ولا يحتاج نصوصًا مثلها.

( بالنسبة لخلق أنتونيو لميرسد، من المهم ان نأخذ في الإعتبار الأوراق التي استخدمت لخلق اعضاءها وعظامها وكيانها.
" فسخ أنتونيو كعوب الكتب وقطع أوصال أوستن وثربانتس وأخذ أوراقًا من اللاويين والقضاة، مزج كله بصفحات من كتاب الضوء المتلألئ، وكانت هي الأولى التي صنعت على هذه الشاكلة : رجلاها من كروت المعايدة، وزائدتها الدودية من السيلوفان، وثدياها ورقيان، خلقت من قصاصات الورق لا من ضلع رجل."
إن الأدب في طبيعته الحقيقية، هو ما جعل ميرسد ممكنة، وهو الذي يجعلنا ممكنين أيضًا).

( V  )

الميتاسرد هو ربما ما كان يعنيه نيتشه حين قال أنه يخشي ان نظل مؤمنين بالرب لاننا لا زلنا نملك قواعد النحو[7].
مات الرب، لكن فقط من ناحية واحدة، يمكننا القول، بأن الرب لم يعد قيل وقال مشترك يهمس من أذن لأخرى في دوائر إجتماعية، الرب الآن ثرثار مثالي، هو العبث الذي نسمعه في أكثر اللحظات خصوصية حين تواجهنا أشياء كالذات أو العالم في عالمنا ما بعد المسيحي، عالمنا الميتاسردي، صار الرب لغة، أو بعبارة أفضل، صار هو المنطق الخاص أكثر مماهو  القواعد النحوية المشتركة، قواعد لازالت تشكل العالم ولكن عالم مستوى خاص مجزأ.

( إن موقع بلاسثنثيا في الرواية يستحق الانتباه – إن الاسم الذي أعطاه لشخصيته القناع الشبيهة بالإله هو اسم ملزم بوضوح : ساتورن Saturn  (زُحل) وهو صاحب طابع عابس (زُحلي) saturnine، وتحكي الرواية كذلك عن علاقة المؤلف المنتهية مع امرأة تدعي ليز، امرأة  تعترض، في مجرى الأحداث، على رؤيته أحادية الجانب للقصة.
"كنت أنوي البقاء صامتة، تاركة إياك تكتب قصتك، لأدعك تكوّن تاريخك الشخصي كما ترغب، لكن هذه رواية، ولم يعد ذلك الأمر بيني وبينك فقط".
إن ليز تحتج ليس فقط بخصوص ما يخصها في الرواية ولكن بخصوص كل القصص التي يقدمها بلاسثنثيا في سرده.
ومن أكثر الشخصيات التي تعلق بالذاكرة في الرواية، شخصية هامشية تدعى سمَيلي Smiley ، يحاول الإتصال بصانعه ليسأله عن دوره الهامشي في السرد الذي نقرأه، وسريعًا ما يصاب سميلي بالإحباط حين يعجز بلاسثنثيا عن إدراكه. لقد خذل سميلي إلههُ الشخصي، إن ساتورن، كما في لوحات جويا، هو عملاق يبيد أطفاله وأناسه الذين خلقهم من ورق).

( VI )

تقول جوان ديديون إننا نروي لأنفسنا القصص كي نحيا، ويضيف الميتاسرد تعديلاً طفيفًا لهذه العبارة، إننا نروي لأنفسنا الأكاذيب كي نحيا، الفارق طفيف لكنه ضروري، حسب اعتقادي، إننا نلتقط الحكي وراء الكذبة؛ يمكننا أن نعتبر مثل هذه الحقيقة مبالغ فيها، لكنها لا زالت تنتمي إلينا، ونحن ممتنون لوجودها.

("ذلك الكتاب مجرد هراء، لا أحد يفكر بمثل هذه الطريقة " قالت هي، وأزدادت هالتها إشعاعًا).

( VII )

لا يفرض الميتاسرد أي صيغة متعجرفة عن استثنائية البشر، إن العالم من لحم ودم لابسبب نزوله من السماوات ولكن بسبب وجوده داخلنا، فاللغة تحوز مادية وهيولية لا تؤخذ عادة في الإعتبار.

( حين التقى سميلي ببلاسثنثيا للمرة الأولى، أُحبط بكل الطرق، ليس فقط بسبب عدم ادراك خالقه له كأحد مخلوقاته، ولكن لأن وجود بلاسثنثيا الهيولي يفتقر لأي مظهر ألوهي.
"لكنني عندما جئت إلى ساتورن لم يكن في وعيه أبدًا، وحتى لم يتوقع قدومي، ولم يهتم أيضًا؛ لقد تخلى عن القصة وتخلى عن قدرته كسارد. وجدته نائمًا، مستلقيًا وعاريًا، كان راقدًا على بطنه وتحته أكياس الوسائد، أما الوسائد فقد كانت مرمية أمام الحائط".
صانعونا معابون وعرضة لكربات الحب كما إننا كلنا معرضون، وما هو أسوأ، إنهم من لحم ودم، ملموسون مثلنا).

( VIII )

توني موريسون : "نموت، ربما كان ذلك هو معنى الحياة، لكننا نملك اللغة وربما كان ذلك هو مقياس حياتنا".
هناك حقيقتان بشريتان فقط نعرفهما حق المعرفة، الموت والحياة، وعندما تواجهنا أي هاوية اخرى لأي طريق آخر، فنحن نملك اللغة.

( "وإلى ليز، التي علمتني أننا جميعًا من ورق").

( IX )

نعيش لحظة تاريخية خرجت مباشرة من مقال لبورخيس "لماذا يزعجنا أن يكون دون كيخوته من قراء الكيخوته وهاملت من مشاهدي من مشاهدي هاملت ؟ إعتقد إني اكتشفت السبب: توحي هذه الانقلابات في الأوضاع بإنه إذا كان بوسع شخصيات عمل خيالي أن تصير قراءً او مشاهدين فسيكون بوسعنا، نحن قراءها أو مشاهديها أن نصير وهميين"[8].
وأود ان أعدل ذلك قليلاً، يعمل الميتاسرد من مركز يقين يُعَد عدم يقيننا مكون أساسي له.
إن كوننا نحن القراء والمشاهدين، وهميين، لا يجعلنا ببساطة نقبل إحتمالية كهذه، ولأطروحات كهذه هناك شك طفيف حول يقينية الميتاسرد.

( سميلي وكذلك ميرسد دي بابل، يمثل حقيقة الأمر حتى ولو كانت تلك الحقيقة على الهامش؛ الشخصيات الثانوية وحدها هي التي تعبر عما يدور سرد بلاسثنثيا بالفعل، وعندما تثور عصابة جامعي زهور المونتي، المونتي فلورس El Monte Flores، ال EMF، التي يقودها والد ميرسد الصغيرة، فيديريكو دي لا في Federico de la Fe، ( في Fe، هل هي تهتهة Feo ؟)، ضد ساتورن/بلاسثنثيا كي يحوذوا تحكمهم الكامل في قصصهم وحياتهم، يحاول سميلي تحقيق السلام بدلاً من الحرب، مع صانعه .
إن سميلي هو الفرد، وربما هو الفرد الوحيد، المدرك للطبيعة الخيالية للأمر، ولا يهتم بغير ذلك، يريد سميلي، مثلما نريد جميعًا، أن يرى كيف يتشكل الحكي، يوجد المشاهدون في الرواية في صورة ميرسد دي بابل وسميلي، لمشابهتهما لنا خلقًا وصورة).

( X )

ليس هناك أي قلق في الميتاسرد فيما يخص طبيعته الخيالية أبدًا، ليعرف كل منا أن الحكي هو حقيقة محررة، وربما هو الحقيقة الأخيرة.
كل القلق يكمن في أن الميتاسرد يناقش بنية السرد ويناقش ما سوف يحتويه ذلك السرد، لذا لاينتهي الميتاسرد أبدًا بجملة أخيرة لكنه يمضي بعد ذلك كما تمضي حياتنا، كل ذلك هناك وببساطة نستمع :
("لن يكون هناك توابع للحزن").

تم التنسيق باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي





[1] سلبادور بلاسثنثيا Salvador Plascencia ( كاتب أمريكي ولد عام 1976 في وادي الحجارة بالمكسيك ، والرواية هي أول أعماله).
[2] جورج فراگوبولوس (يقيم في نيويورك، ويعد حاليًا رسالة الدكتوراة عن الشعرية الامريكية الحديثة).
[3] بالإسبانية papel     في الأصل، وفي الجملة جناس بين papal ( بابوي ) و papel  ( ورق بالاسبانية ).
[4] بالإسبانية papel في الأصل.
[5] سيمابو Cimabue: سيني دي بيبو (جيوفاني) سيمابو عاش مابين 1240 م وعام 1302 م، يعرف كذلك باسم بنشيفاني دي بيبو (بالإيطالية الحديثة بينفيتونو دي جيوسيبي) رسام إيطالي وفنان موزاييك فلورنسي.
[6] جيوتو (دي بوندوني) Giotto di bondone : رسام فلورنسي عاش مابين 1276 م وعام 1337 م.
[7] بالألمانية: “Ich fürchte, wir warden Gott nicht los, weil wir noch an die Grammatik glauben.”، والتي يمكن ترجمتها إلى "العقل في اللغة، آه ! يالها من عجوز خادعة،"أخشى ألاّ نستطيع أن نتخلص من إيماننا بالرب لأننا لا زلنا نؤمن بقواعد النحو " نيتشه، أفول الاصنام Götzendämmerung (العبارة المائلة هي ترجمة النص الألماني، أما ما ذكر قبلها فلم تذكر بالألمانية – المترجم .
[8] " سحر القصة داخل القصة في دون كيخوته "، مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا، ترجمة خليل كلفت (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008) صـ 132.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق