الثلاثاء، 26 يناير 2016

من التاريخ المصري للواقي الذكري

من التاريخ المصري للواقي الذكري

-1-
 ربما يذكر مواليد بدايات 1980ات تلك الإعلانات التلفزيونية التي تحذر من مرض الإيدز، بموسيقاها التصويرية المميزة والمشهد المقرب لسمانة امرأة لا هي بالنحيفة ولا هي بالسمينة، مرة مدملكة بحسب التعبير المصري، يتبعها حذء رجل -ربما كان مقاس 44- وأصوات المغنين الشبيه بمنشدي الحروب يغني في خلفية المشهد "خطر خطر اوعى الخطر ابعد بلاش الخطوة دي ما تخطيهاش" ثم يكمل التحذير "الإيدز ع الموت انطوى الإيدز زي الموت سوا لا له علاقة ولا دوا".
ربما يذكر البعض ذلك الغناء وذاك الإعلان، الذي صاحب طفولتنا مثله مثل إعلان البلهارسيا "ادي ضهرك للترعة"، رغم ذلك لا أدري كيف احتفظت الذاكرة الطفولية بكلمات تلك الأغنية رغم ألفاظها الثقيلة - انطوى على سبيل المثال- لكني أذكر جيدًا كيف كان المُعلق، وهو غير المغني بطبيعة الحال، يختم ذلك الإعلان ويقرر أن في البلاد الغربية -أصبحوا كفارًا فيما بعد- يستعملون الواقي الذكري لكن في بلادنا الجميلة -الجميلة خالص- يتحلى أولادنا بالقيم الدينية.
-2-
ودعت الطفولة وغادرت تلك الإعلانات الشاشات، ليحل محلها إعلانات تحذيرية أخرى عن مخاطر المخدرات وخلافه، قبل أن تتحول هذه الإعلانات إلى أعمال درامية تحذيرية كاملة تحذر من الجنس والمخدرات، كان زمن إعلانات اوعى الخطر سابقًا على فِلم ديسكو ديسكو ومسلسل امرأة من زمن الحُب، لكنه علق بذهني وبذهن غيري حتى المراهقة.
في المراهقة لم نكن نعرف هذا الواقي الذكري سوى بالاسم، تعلمنا في ذلك الزمن إن اسمه الحركي توبس، وكثرت في سنوات المراهقة النكات عن التوبس ومنها نكتة الصعيدي الذي ناك إحدى الأجنبيات فطلبت منه أن يرتدي توبسًا "عشان ما تحبلش" فلم يجد فارتدى جوربه ثم قذفه بعيدًا -الجورب لا المني- قائلًا "روح إياكش تحبل".
كان التوبس مركزًا لأحاديث المراهقة السرية، مثلًا مثل غناء عزيزة سلطان وأفلام هوليا عوشار وشريط عاشق السكس -الذي اكتشفنا فيما بعد إنه عاشقًا للساكسفون لا السكس إياه-، في تلك الأيام رأينا هوليا عوشار كاملة وسمعنا عزيزة سلطان لكن لم يرَ أحد منا توبسًا إلا فيما بعد.
-3-
رأيت التوبس للمرة الأولى في الجامعة، بدايات الألفية السعيدة، كان يباع من تحت الترابيزة ولم يكن احتل مكانه الأثير فوقها بعد، كان نزيلًا مخفيًا مثله مثل الفوط الصحية، وكانت أنواعه رديئة مؤذية، ولم يكن غير اسمه بعد.
في تلك الأيام انتشرت عادة أن يشتري المراهقون توبسًا لممارسة العادة السرية به، وسرت معلومة تم التعامل معها بوصفها حقيقة راسخة إن الجِل الملين داخل التوبس هو نفس السائل داخل عضو المرأة، في تلك الأيام كان لنا العذر أن نصدق ذلك، كنا بلا خبرات لم يلمس أغلبنا عضو امرأة، كان العضو الأنثوي بالنسبة لنا خيالًا سينمائيًا مثله مثل عضلات ڤاندام وحركات جاكي شان وفأر ميكي ماوس ومؤخرة زيزي صاحبة بطوط.
-4-
في العقد الأخير حصل الواقي الذكري على اسمه الجديد مثلما حصل السوتيان على اسمه، صار الكلوت پانتيز وصار اللباس بوكسرًا وصار التوبس كوندمًا.
في العقد الأخير غادر الكوندم مكانه أسفل الترابيزة ليباع في كل الأماكن on the counter  مثله مثل منتجات الصناعة الجنسية كلها، جِل المداعبة بطعم الموز والفراولة والنعناع، معطر الأعضاء برائحة البلوجوب، صار الكوندم أشكالًا وألوانًا وأحجامًا، "أبيض .. فضي ... أحمر .. أزرق أحمدك يا رب"، دخل جيلنا عصر الوفرة الكوندمية من أوسع أبوابه بعد أن جرب أسوأ الأنواع الهندية والصينية وحصل بسببها على التسلخات الأشد إيلامًا.
-5-
بالأمس مارس اثنان من مواليد 1990ات سخرية باستخدام الكنادم -والكنادم جمع تكسير لم يجزه المعجم بعد- مارسا تلك السخرية في عصر الوفرة الكوندمي، سخرية بنت عصرها تمامًا، فلم يكن من الممكن قبل 10 سنوات فقط الحصول على تلك الكمية من الكنادم ونفخها، فعل النفخ في حد ذاته هو ابن عصره، ابن النصائح الجنسية الحديثة المرشدة لنفخ التوبس/القبوط/الكوندم قبل لبسه، صار الكوندم بالون احتفال مملوء بالهواء بعد أن كان بالون انتهاء مملوء بالماء الذكري.
مست تلك السخرية البريئة مناطق حساسة لدى أنصار دولة المارشال، أولها منطقة تعاملهم مع الجنس، فأنصار الدولة جميعهم مهووسون بتلميحات النصب والانتصاب، هوس الفحولة محرك رئيسي في الهجوم على المعارضين وتعريتهم والرغبة في اغتصابهم وفشخهم معنويًا وحرفيًا، وثانيها الطعن في الإخلاقيات الأبوية الهشة التي تستخدم دومًا لقمع الأصغر والأضعف، تلك الأخلاق التي ممكن هزها ببالونة مطاطية.
لكن تلك السخرية، وهذه ثالثة الأثافي، تمارس فعلًا أساسيًا مخربًا -بالنسبة لأنصار الدولة- هذا الفعل هو تحويل الاستعمال، فالتوبس أو الكوندم هو مجرد غطاء مطاطي للعضو الذكري مثله مثل الغطاء الطبي للأصبع، تحويل الاستعمال مقلق جدًا عند أنصار الدولة الوهمية، فالدولة الحديثة نفسها مجرد استعمال متعارف عليه ممكن ممارسة أفعالها خارجها -أفعال الدولة خارجها تسمى إرهابًا كما تعرفون- والشرطة ليست سوى يونيفورم لامع.
تحويل الاستعمال مقلق جدًا فهو يلمح لوهمية الدولة ووهمية المؤسسة، فلو عرف الناس إن البالون هو مجرد كوندم لربما أدركوا ولو من طرف خفي إن المارشال هو الآخر لا يملك الحياة والموت، لو أصبح البالون كوندمًا فاللباس أيضًا صار مارشالًا، فمثلما نفخ الساخران الكوندم ليصير بالونًا نفخ أنصار الدولة اللباس فصار مارشالًا.


الفارق الوحيد عندهم هو في صاحب الحق في النفخ لا في النفخ نفسه.

الأحد، 24 يناير 2016

بلا دية ... بلا ثمن

بلا دية ... بلا ثمن

"الشعب يريد إسقاط النظام"
لكن النظام لا يسقط
إنه يستمر ويستمر ويستمر
يجدد دماءَه بدماء ضحاياه، ودماء لم يقتلها.
يغير النظام وجوهه التي رحلت أو ماتت أو توارت في الظل، ويُسكن البعض الآخر مساكن المعارضة القديمة، ليلعب لعبة وجه العملة وقفاها.
النظام يعيد تقسيم دوائر المجتمع، يعيد بناء الحواجز، ويسمح بمساحات بينية ضئيلة، تشبه الشقوق بين أحجار الأسوار، ليتحرك عبرها الباقون على قيد الحياة خارج الزنازين.
منذ نصف قرنٍ وبضع سنوات، غضب النظام على اليسار، فدجن البعض وأسكن الكثير فسيح زنازينه، كان الرفاق يجلدون والرفاق الآخرون يكتبون شعرًا وفنًا ومسرحًا وأدبًا بالجملة، بعد أعوام سيتغنى كل اليسار بقدرته على العطاء (الثوري) حتى في لحظات المحن.
النظام يسجن ويُسكن، يسجن البعض في زنازين الذين ظُلِموا ويُسكن أصدقاءهم مساكن الذين ظَلَموا، ليبكِ أصدقاء الأولين عليهم ويختصرون (الثورة) في الدفاع عن أصحابهم.
النظام يحول الثورة إلى أدب غير ضار، ويفتح الأبواب ليشكل فقاعات الثقافة المُجملة للقمع، في المقابل يموت آخرون بلا دية أو ثمن، يموتون دون أن يبكيهم أحد.
بعد خمس سنوات يصير معارفنا السابقون وجوه داخل النظام، تتغير الكروش الوارمة الجالسة على مقاعد المؤسسات ليصير فوقها أصدقاء الأمس، بعد 10 سنوات سيتغنى الجميع بالمنجز الثقافي، المنجز الذي يعني نجاح النظام في تحويل الضغط المتراكم إلى فن وديع كقطٍ مخصي في ليالي الشتاء.
النظام يحول الثورة إلى علبة مناديل، إلى مفرش بألوان العلم، إلى بطانية وطنية، إلى كارت الشهداء بجنيه، إلى رواية بست سِلّر، إلى مشروع خيري، النظام يحول الثورة إلى مجرد تسمية رومانطيقية وذكرى يتطوح فيها الدروايش على مواقع الشبكات الاجتماعية، النظام لا يخشى تلك الأشياء كلها.

خارج حدود النظام يوجد آخرون بلا وجوه، لا دية لهم ولا ثمن ولا ذكر، رأيناهم لحظات عابرة ثم اختفوا، يحيون خارج قواعد النظام، ربما يقلبون النظام على رؤوس الجميع في يومٍ قريب.