‏إظهار الرسائل ذات التسميات الثورة المصرية. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات الثورة المصرية. إظهار كافة الرسائل

الثلاثاء، 26 يناير 2016

من التاريخ المصري للواقي الذكري

من التاريخ المصري للواقي الذكري

-1-
 ربما يذكر مواليد بدايات 1980ات تلك الإعلانات التلفزيونية التي تحذر من مرض الإيدز، بموسيقاها التصويرية المميزة والمشهد المقرب لسمانة امرأة لا هي بالنحيفة ولا هي بالسمينة، مرة مدملكة بحسب التعبير المصري، يتبعها حذء رجل -ربما كان مقاس 44- وأصوات المغنين الشبيه بمنشدي الحروب يغني في خلفية المشهد "خطر خطر اوعى الخطر ابعد بلاش الخطوة دي ما تخطيهاش" ثم يكمل التحذير "الإيدز ع الموت انطوى الإيدز زي الموت سوا لا له علاقة ولا دوا".
ربما يذكر البعض ذلك الغناء وذاك الإعلان، الذي صاحب طفولتنا مثله مثل إعلان البلهارسيا "ادي ضهرك للترعة"، رغم ذلك لا أدري كيف احتفظت الذاكرة الطفولية بكلمات تلك الأغنية رغم ألفاظها الثقيلة - انطوى على سبيل المثال- لكني أذكر جيدًا كيف كان المُعلق، وهو غير المغني بطبيعة الحال، يختم ذلك الإعلان ويقرر أن في البلاد الغربية -أصبحوا كفارًا فيما بعد- يستعملون الواقي الذكري لكن في بلادنا الجميلة -الجميلة خالص- يتحلى أولادنا بالقيم الدينية.
-2-
ودعت الطفولة وغادرت تلك الإعلانات الشاشات، ليحل محلها إعلانات تحذيرية أخرى عن مخاطر المخدرات وخلافه، قبل أن تتحول هذه الإعلانات إلى أعمال درامية تحذيرية كاملة تحذر من الجنس والمخدرات، كان زمن إعلانات اوعى الخطر سابقًا على فِلم ديسكو ديسكو ومسلسل امرأة من زمن الحُب، لكنه علق بذهني وبذهن غيري حتى المراهقة.
في المراهقة لم نكن نعرف هذا الواقي الذكري سوى بالاسم، تعلمنا في ذلك الزمن إن اسمه الحركي توبس، وكثرت في سنوات المراهقة النكات عن التوبس ومنها نكتة الصعيدي الذي ناك إحدى الأجنبيات فطلبت منه أن يرتدي توبسًا "عشان ما تحبلش" فلم يجد فارتدى جوربه ثم قذفه بعيدًا -الجورب لا المني- قائلًا "روح إياكش تحبل".
كان التوبس مركزًا لأحاديث المراهقة السرية، مثلًا مثل غناء عزيزة سلطان وأفلام هوليا عوشار وشريط عاشق السكس -الذي اكتشفنا فيما بعد إنه عاشقًا للساكسفون لا السكس إياه-، في تلك الأيام رأينا هوليا عوشار كاملة وسمعنا عزيزة سلطان لكن لم يرَ أحد منا توبسًا إلا فيما بعد.
-3-
رأيت التوبس للمرة الأولى في الجامعة، بدايات الألفية السعيدة، كان يباع من تحت الترابيزة ولم يكن احتل مكانه الأثير فوقها بعد، كان نزيلًا مخفيًا مثله مثل الفوط الصحية، وكانت أنواعه رديئة مؤذية، ولم يكن غير اسمه بعد.
في تلك الأيام انتشرت عادة أن يشتري المراهقون توبسًا لممارسة العادة السرية به، وسرت معلومة تم التعامل معها بوصفها حقيقة راسخة إن الجِل الملين داخل التوبس هو نفس السائل داخل عضو المرأة، في تلك الأيام كان لنا العذر أن نصدق ذلك، كنا بلا خبرات لم يلمس أغلبنا عضو امرأة، كان العضو الأنثوي بالنسبة لنا خيالًا سينمائيًا مثله مثل عضلات ڤاندام وحركات جاكي شان وفأر ميكي ماوس ومؤخرة زيزي صاحبة بطوط.
-4-
في العقد الأخير حصل الواقي الذكري على اسمه الجديد مثلما حصل السوتيان على اسمه، صار الكلوت پانتيز وصار اللباس بوكسرًا وصار التوبس كوندمًا.
في العقد الأخير غادر الكوندم مكانه أسفل الترابيزة ليباع في كل الأماكن on the counter  مثله مثل منتجات الصناعة الجنسية كلها، جِل المداعبة بطعم الموز والفراولة والنعناع، معطر الأعضاء برائحة البلوجوب، صار الكوندم أشكالًا وألوانًا وأحجامًا، "أبيض .. فضي ... أحمر .. أزرق أحمدك يا رب"، دخل جيلنا عصر الوفرة الكوندمية من أوسع أبوابه بعد أن جرب أسوأ الأنواع الهندية والصينية وحصل بسببها على التسلخات الأشد إيلامًا.
-5-
بالأمس مارس اثنان من مواليد 1990ات سخرية باستخدام الكنادم -والكنادم جمع تكسير لم يجزه المعجم بعد- مارسا تلك السخرية في عصر الوفرة الكوندمي، سخرية بنت عصرها تمامًا، فلم يكن من الممكن قبل 10 سنوات فقط الحصول على تلك الكمية من الكنادم ونفخها، فعل النفخ في حد ذاته هو ابن عصره، ابن النصائح الجنسية الحديثة المرشدة لنفخ التوبس/القبوط/الكوندم قبل لبسه، صار الكوندم بالون احتفال مملوء بالهواء بعد أن كان بالون انتهاء مملوء بالماء الذكري.
مست تلك السخرية البريئة مناطق حساسة لدى أنصار دولة المارشال، أولها منطقة تعاملهم مع الجنس، فأنصار الدولة جميعهم مهووسون بتلميحات النصب والانتصاب، هوس الفحولة محرك رئيسي في الهجوم على المعارضين وتعريتهم والرغبة في اغتصابهم وفشخهم معنويًا وحرفيًا، وثانيها الطعن في الإخلاقيات الأبوية الهشة التي تستخدم دومًا لقمع الأصغر والأضعف، تلك الأخلاق التي ممكن هزها ببالونة مطاطية.
لكن تلك السخرية، وهذه ثالثة الأثافي، تمارس فعلًا أساسيًا مخربًا -بالنسبة لأنصار الدولة- هذا الفعل هو تحويل الاستعمال، فالتوبس أو الكوندم هو مجرد غطاء مطاطي للعضو الذكري مثله مثل الغطاء الطبي للأصبع، تحويل الاستعمال مقلق جدًا عند أنصار الدولة الوهمية، فالدولة الحديثة نفسها مجرد استعمال متعارف عليه ممكن ممارسة أفعالها خارجها -أفعال الدولة خارجها تسمى إرهابًا كما تعرفون- والشرطة ليست سوى يونيفورم لامع.
تحويل الاستعمال مقلق جدًا فهو يلمح لوهمية الدولة ووهمية المؤسسة، فلو عرف الناس إن البالون هو مجرد كوندم لربما أدركوا ولو من طرف خفي إن المارشال هو الآخر لا يملك الحياة والموت، لو أصبح البالون كوندمًا فاللباس أيضًا صار مارشالًا، فمثلما نفخ الساخران الكوندم ليصير بالونًا نفخ أنصار الدولة اللباس فصار مارشالًا.


الفارق الوحيد عندهم هو في صاحب الحق في النفخ لا في النفخ نفسه.

الأحد، 24 يناير 2016

بلا دية ... بلا ثمن

بلا دية ... بلا ثمن

"الشعب يريد إسقاط النظام"
لكن النظام لا يسقط
إنه يستمر ويستمر ويستمر
يجدد دماءَه بدماء ضحاياه، ودماء لم يقتلها.
يغير النظام وجوهه التي رحلت أو ماتت أو توارت في الظل، ويُسكن البعض الآخر مساكن المعارضة القديمة، ليلعب لعبة وجه العملة وقفاها.
النظام يعيد تقسيم دوائر المجتمع، يعيد بناء الحواجز، ويسمح بمساحات بينية ضئيلة، تشبه الشقوق بين أحجار الأسوار، ليتحرك عبرها الباقون على قيد الحياة خارج الزنازين.
منذ نصف قرنٍ وبضع سنوات، غضب النظام على اليسار، فدجن البعض وأسكن الكثير فسيح زنازينه، كان الرفاق يجلدون والرفاق الآخرون يكتبون شعرًا وفنًا ومسرحًا وأدبًا بالجملة، بعد أعوام سيتغنى كل اليسار بقدرته على العطاء (الثوري) حتى في لحظات المحن.
النظام يسجن ويُسكن، يسجن البعض في زنازين الذين ظُلِموا ويُسكن أصدقاءهم مساكن الذين ظَلَموا، ليبكِ أصدقاء الأولين عليهم ويختصرون (الثورة) في الدفاع عن أصحابهم.
النظام يحول الثورة إلى أدب غير ضار، ويفتح الأبواب ليشكل فقاعات الثقافة المُجملة للقمع، في المقابل يموت آخرون بلا دية أو ثمن، يموتون دون أن يبكيهم أحد.
بعد خمس سنوات يصير معارفنا السابقون وجوه داخل النظام، تتغير الكروش الوارمة الجالسة على مقاعد المؤسسات ليصير فوقها أصدقاء الأمس، بعد 10 سنوات سيتغنى الجميع بالمنجز الثقافي، المنجز الذي يعني نجاح النظام في تحويل الضغط المتراكم إلى فن وديع كقطٍ مخصي في ليالي الشتاء.
النظام يحول الثورة إلى علبة مناديل، إلى مفرش بألوان العلم، إلى بطانية وطنية، إلى كارت الشهداء بجنيه، إلى رواية بست سِلّر، إلى مشروع خيري، النظام يحول الثورة إلى مجرد تسمية رومانطيقية وذكرى يتطوح فيها الدروايش على مواقع الشبكات الاجتماعية، النظام لا يخشى تلك الأشياء كلها.

خارج حدود النظام يوجد آخرون بلا وجوه، لا دية لهم ولا ثمن ولا ذكر، رأيناهم لحظات عابرة ثم اختفوا، يحيون خارج قواعد النظام، ربما يقلبون النظام على رؤوس الجميع في يومٍ قريب.

الأحد، 30 نوفمبر 2014

عن تزوير –لامؤاخذة- التاريخ

عن تزوير –لامؤاخذة- التاريخ

بعد صدور الحكم المتوقع من أي متابع لجلسات محاكمة مبارك المُذاعة واللي تم فيها التركيز على السردية العُكاشية للتاريخ، اللي اتضح بعد كدا إنها السردية الرسمية، كتب أكتر من حد على السوشيال ميديا إن السلطة "هتزور التاريخ"، وكانت فكرة "تزوير التاريخ" الفكرة المحورية والعبارة المركزية السائدة في كلام ناس كتير وخوفهم على ما شاركوا فيه من إنه يُزور، وبرغم إن عبارة تزوير التاريخ وعبارات أخرى زي "التاريخ يكتبه المنتصر" اللي أكيد بالمناسبة قالها منتصر عشان يقول للي اتهزموا "يا ولاد الوسخة حطينا عليكم" مش أكتر، هي عبارات منتشرة وسائدة لكن من السهل، زي أي جملة مركزية، تقويضها وتفكيكها وتوضيح مدى زيفها.
الجمل دي نابعة من خلط شائع ما بين التاريخ نفسه وكتاب التاريخ المدرسي، اللي بيُعد الرواية الرسمية لتربية خدم البيروقراطية، ممكن ترجعوا لكتاب استعمار مصر لتيموثي ميتشيل وتقروا عن المدارس والبعثات وقت محمد علي وأبنائه وتعرفوا إن المدرسة بتربي خدم لسلطة الدولة زيها زي الجيش والشرطة، لكن التاريخ نفسه هو مفهوم ثابت ثبات الزمان الماضي، كل زمان ماضي هو تاريخ، وكل زمان هو مضى بشكل أو بآخر، لما بتيجي تقول تاريخ اليوم 30 نوفمبر 2014 مثلًا فإنت عارف كويس إن تاريخ اليوم دا ثابت ومش هيتغير طالما إنت في نفس خط الطول ونفس المنطقة الزمنية، لكن التاريخ المدرسي هو تأريخ، المسألة مش مجرد همزة اتحطت على ألف المد، التأريخ هو مصدر لفعل رباعي أرخ وزنه فَعّلَ، التأريخ على وزن تفعيل، وبصفتكم بتقروا الكلام دا على مدونة فأكيد عارفين التفعيل activation  خلينا في المثال التقني دا شوية، التاريخ نفسه اللي هو الزمان الماضي هو نسخة برنامج مفتوح المصدر open source  كل تأريخ بمعنى سردية مختلفة لأحداث التاريخ الماضي هي تفعيل مختلف لنسخة البرنامج، وكل شخص قادر يعدل في نسخة البرنامج حسب مزاجه بإنه يخفي حاجات ويظهر حاجات ويمسح حاجات كمان، بس دا مش معناه إن النسخة الأصل مش موجودة، لكن معناه إن النسخة الأصل بكل مكوناتها مخفية عن نسبية المستخدم، التاريخ كل واحد بيشوفه بتأريخه المختلف وطول ما الإنسان عايش وخاضع لسلطات وقوى التآريخ دي هتفضل موجودة وكل شخص عنده رواية مختلفة للأحداث.
هاحكي حكاية حصلت معانا كلنا يمكن، كشريحة عمرية اتولدت سنة 1982 وكان أكتوبر 1998 آخر أكتوبر قضيناه في الدراسة ما قبل الجامعية، الأيام اللي قبل 6 أكتوبر، قررت الإدارة التعليمية، لسبب أو لآخر، إنها تعظنا عن مخاطر الحروب وفوائد السلام، السلام الانبطاحي بتاع كامب ديڤيد طبعًا واللي كان مكمله مبارك ومكمله المارشال بقاليظو دلوقت، ولإننا كنا فصل علمي بندرس فيزياء ورياضيات 2 وأغلب الفصل ما عدا اتنين بيدرسوا منهج التاريخ، الاتنين دول كنت واحد منهم، دخل علينا أستاذ الفيزياء، ويمكن دا اختيار غريب قوي، بس ممكن فهمه لأنه كان أكبر الأساتذة سنًا، كان مواليد 1940 وفاضل له سنتين على المعاش، كان مدرس فيزياء كويس جدًا بالمناسبة وسبب من أسباب حبي لها ودراستي لها في الكلية بعد كدا، لكن يومها دخل عشان يكلمنا عن حرب أكتوبر 1973، كانت الذكرى الخامسة والعشرين وكدا، وقعد يكلمنا وإزاي البلد كانت خربانة وكان أسهل لك تروح لواحد بدل ما تكلمه في التليفون لأن التليفون كان ما بتجمعش إلخ، وبعدين قعد يعدد محاسن السلام، اللي أدركناه في عهد مبارك، وإزاي بقى عندنا طرق وكباري، مبارك كان بيحب الكباري قوي لدرجة اتسمى حسني كباري، وبقى عندنا تليفونات كويسة والمحمول أهو جا وهيبقى في أيدي الجميع والإنترنت كمان، كان وقتها المحمول موجود بس غالي جدًا والانترنت بكارت اسمه ياللا وديال آب وحاجة تشل الكتكوت، المهم إن كل الحكاية دي غرضها، إن ما حدش يقول لكم حرب ولا ضرب ولا نيلة، ومبارك دا أجدع واحد مسك وحصل في عهد إنجازات إلخ، يومها وفي الأيام اللي بعدها اختلف نظرة كل حد للموضوع، بالنسبة لي كنت شايف إنه طبيعي الدنيا تتغير في ربع قرن، ودا مالوش علاقة بمين الريس ولا مين الحكومة، لأن فيه تغييرات بتحصل نتيجة التقدم العلمي، وأكيد إن مصر اتأخرت بسبب حكومتها مش العكس، ولولا حكومتها كان التقدم بقى أسرع، لكن أغرب تفسير ظهر وانتشر ما بين الطلاب وقتها، خليني أقول بس إني باحكي عن مدرسة ثانوية كبيرة بتضم 11 فصل ثانوية عامة، يعني تالتة ثانوي، بتضم حوالي 500 طالب ودا مش رقم بسيط، لأنهم منتشرين في منطقة مصر الجديدة كلها، التفسير الأغرب كان إنهم بيقولوا لنا كدا عشان إحنا الجيل اللي هيحرر القدس، ما اعرفش مين قاله ولا إزاي انتشر، لكن عارف إنه انتشر زي النار في الهشيم، زي أي تفسير بيخاطب الهمم الصبية وبيحسسها بفتوتها وقوتها، خلال السنين اللي بعد كدا حصلت الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، واستمرت طوال سنين الجامعة، وكانت تعديد محاسن الطرق والكباري موجودة برضه بالنسبة لمبارك كل ما نجيب سيرته، فاكر فيه طالب أصغر مني بسنة قعد يقول لنا إن الراجل دا-يقصد مبارك- عمل طرق ونوّر شارع الهرم، ووالده قال له إنه أول ما سكن هناك أيام السادات كان الدنيا ضلمة والشوارع ترابن وكأن دا مش شيء طبيعي ما بين السبعينات وبداية الألفية، هيحصل هيحصل بفعل الزمن.
الجيل اللي باحكي عليه، والسنين اللي بعدها، ما حررش القدس طبعًا، لكنه وأعني هنا مواليد ما بين 1975 و1995، اللي دخلوا المدارس ووصلوا الثانوية العامة وقت مبارك، اللي كان عمرهم ما بين 36 سنة و16 سنة وقت 2011، قدروا يجبروا النظام إنه يتف مبارك، خلونا نقولها كدا، بدل اتخلع ولا تخلى ولا اتنيل، الضغط من تحت على النظام أجبر النظام يتف من بقه حتة الشوكة المقرفة دي، مبارك تم تفه من بق النظام، عشان النظام يعيش ويكمل ويقدر يقضي على انتفاضة الجيل دا اللي مش قادرين يستوعبوه، الجيل اللي طول الوقت كان بيتعرض لسرديتين نظاميتين للتاريخ، سردية رسمية في الكتاب المدرسي وبرامج التلفزيون وسردية غير رسمية في حكاوي المدرسين والأفلام والمسلسلات وخلافه، سردية قوامها إن مبارك –اللي حكم أكتر من ربع قرن- عمل نقلة نوعية، وكأن الزمن بيقف ومش بيمشي والربع قرن دول العالم ما اتنكتش فيهم واتجاب عاليه واطيه، طب إيه النقلة النوعية دي، خلينا أقولها على لسان طفلة من جيراننا قالتها في 2003 وقت حرب العراق "الميس قالت لنا دا مبارك اللي عمل لنا الشوارع وزرع لنا الشجر وحط لنا الكولديرات في الشارع"، دا تأريخ رسمي وسردية النظام، سردية تافهة وغبية وسطحية، دا كتاب التاريخ المدرسي، المُزيف وعبيط في نفس الوقت، كفاية إنه تاريخ الثانوية العامة بيحكي بتاع ألف سنة في كام صفحة ما يكملوش 250.
طبعًا الكلام اللي بأحاول أقوله مش بينفي وجود سرديات مزيفة للتاريخ طول الوقت، لكن بينفي وجود تاريخ وحيد، طول الوقت فيه تآريخ مختلفة لأي حادث، ودا نتيجة تعدد رؤية البشر، وكل ما الزمن يمشي التآريخ دي بتتغير عشان فيه وثائق جديدة بتظهر، حد زي خالد فهمي مثلًا لسه قادر يتحدى التأريخ الرسمي لعهد محمد علي بعد أكتر من قرن ونص، ليه؟، عشان الزمن بيبين وثائق جديدة وبيلمح لوجود وثائق أخرى خفتها السلطة، جيلي على سبيل المثال، عرف تاريخ فني مختلف نتيجة وجود الإنترنت، عرفنا إن فيه فن موسيقي وطرب قبل سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب، وإنه مش فن طرابيش كنا بنقعد نسخر منه، ليه؟ عشان الزمن بين وثائق كتيرة مختلفة، الأهم من السرديات الزائفة والاهتمام بتغييرها وهي مش هتتغير خالص، الحفاظ على الوثيقة اللي هتكشف زيف السرديات دي.
هل فيه سرديات زائفة لأحداث التاريخ العالمي ككل؟ طبعًا فيه، أشهر سردية زائفة هي السردية العكاشية، وهي سردية موجودة طول الوقت باسم "بروتوكولات حكماء صهيون" والمؤامرة الماسونية العالمية اللي حركت كل الثورات وأحداث التاريخ، وقارئ أي كتاب تخريفي من الكتب دي هيلاقي إن الثورة الفرنسية والثورة الروسية وأي ثورة سببت تغير راديكالي في التاريخ في الكتب دي هي من عمل مجموعات سرية ماسونية لتقويض ونسف الأخلاق والعروش والملوك، السردية العُكاشية اللي اعتمدها القاضي هي هي تخاريف بروتوكولات حكماء صهيون، بس بشوية جمل فخمة وضخمة زي حروب الجيل الرابع وخلافه، لما تقرا كتاب زي كدا هيبقى الحل الوحيد إنك تكون ملكي متطرف، تدافع عن الحكومات المطلقة لإنها هي اللي هتحكميك من الماسون والكائنات الفضائية، السرديات الزائفة للتاريخ دي مش بس تأريخ زائف لكنها وعي زائف حلها الوحيد إن البشر تعرف وتعي وتدرك.
التاريخ اللي حصل حصل وبقى مُطلق، والتآريخ حواليه هتبقى مختلفة ونسبية، ما بين بشر شاركت وصنعت هذا التاريخ نفسه، وبين بشر قعدت على مؤخراتها واتذكروا باسم موضع طيازهم، حزب الكنبة، اللي كان كل دورهم في التاريخ دا الفُرجة، فقرر جزء كبير منهم تبني سردية إن التاريخ دا ما حصلش وكان مؤامرة علينا، ليه؟ لأن أي تبني آخر للأحداث هيعرفهم قد إيه هما عجزة ما قدروش يهزوها ويتحركوا، قد إيه عاشوا خايفين من وحش وهمي سقط في 3 أيام ما بين 25 يناير 2011 و28 يناير 2011.

ما تخافوش على تزييف التاريخ، التاريخ حدث وخلاص، والتآريخ كانت بتتذاع على الهوا أول بأول، خافوا على ذاكرتكم وما تمسحوش الألم منها، خافوا على قصاصات الورق عشان هتبقى وثائق بعد كدا، خافوا عليها عشان فيه بشر هتتولد لحظة كتابة الكلام دا وتقدر بعد 30-40 سنة تبص لزمننا نظرة مختلفة.

السبت، 22 نوفمبر 2014

صاحب الرسالة المارشالجي

صاحب الرسالة المارشالجي

على مدار عمري تعاملت كتير مع ناس مصابين بوهم الرسالة، ما بين السياسة والفن والأدب والصعلكة، مش قليل لما تلاقي شخص قرر فجأة إنه صاحب رسالة وهذه الرسالة مُكلف بتبليغها للناس، الحالة دي بتتعدد أطيافها ودرجاتها ما بين الهوس الكامل بالرسالة ودا غالبًا بيوصل لعنبر الأنبياء في الخانكة، العنبر اللي بيحجزوا فيه مدعي النبوة والمهدية وخلافه، وبين هوس خفيف يُصاب به الأفندية وغيرهم في دول ما بعد الاستعمار.
المعتاد في صاحب الرسالة، إنه بيبقى صاحب ريالة، بس مش شايف ريالته، هو متخيل إنه صاحب رؤية محورية كونية ستغير وجه ووجع الشعوب، وما على الشعب غير إنه يتبعه بصفته حامل الوعي، الحالة الأشهر هي حالة أفندية مقاهي وسط البلد، اللي بمجرد ما يبتدي يحبو في قراية النظرية بيقرر إنه طليعة وإنه قيادة جماهيرية، وإنه مكلف، لأن لينين زانقه زنقة روسي في خانة اليَك في كتاب ما العمل، بإنه ينقل للجماهير وعيها، وبيتدي يتصرف ويتحرك من ثوابت فكرية، هي في الحقيقة ريالة نازلة على صدره، لكن هو شايفها رسالة عظمى.

الحقيقة الحالة لا تقتصر فقط على كونك مثقف أو أفندي أو لأ، في دول ما بعد الاستعمار زي مصر، وخاصة لأن الاستعمار عمل على التفرقة ما بين المتعلمين، اللي هيبقوا خدم وحشم جهاز الدولة البيروقراطي السلطوي الجسم الغريب عن الشعب زيه زي الاستعمار، وبين السواد الأعظم للشعب اللي ظل لأسباب عديدة ومتشابكة غير متعلم، فيكفي إنك تكون بتفك الخط حتى يتم اعتبارك صاحب رسالة، ويفوضك الفلاحين زي محمد أفندي في فيلم الأرض عشان تروح تتفاوض باسمهم، شايفينك صاحب رسالة بينما إنت في الحقيقة صاحب ريالة نزلت أول ما شفت رجل الخواجاية في الفندق زي ما حصل في الفيلم #ما_علينا.

مؤخرًا لاحظت انتشار الحالة دي على السوشيال ميديا، المُتخمة على تمة عينها بالمتعلمين، اللي بيعرفوا يفكوا الخط يعني، وخاصة من المارشالجية، المارشالجي بشكل رئيسي مؤمن بإنه صاحب رسالة، وإن المارشال بقلظ أبو الخدود نحنح الله صوته نفسه صاحب الرسالة الأعظم المُكلف بحماية البلاد، بلغه هو شخصيًا بالرسالة دي، فيقوم المارشالجي من دول أول ما تزنقه في أي نقاش، أو بمعنى أصح تبين إنه صاحب غسالة مش رسالة، يبتدي يفكرك برسالته الخالدة، "إنتم ما تعرفوش المؤامرات على البلد"، وهو لأنه تابع، لو ما كانش ظبوط أو بيدعي إنه ظبوط يعني، بيعتبر إن الظبابيط هما أصحاب الرسالة الأَولى منه بشرف الدفاع عنها، فتلاقيه بيعتبرهم فوق البشر، وفاكر السباليتات اللي على الأكتاف أجنحة ملايكة، هو ما بيناقشش هو بيفكرك بالرسالة المُكلف بيها، رسالة الحماية والواجب والعين والحاجب، أي حاجة تلاقيه فتح لك علبة الردود وطلع لك جملة "دا واجب الظابط إنه يقتلك ويقتل أمك عشان يحميك".

وهم الرسالة عند المارشالجية بيتفاقم أكتر من وهم رسالة أستاذية العالم عند أسلافهم الإخوان، لأن وهم رسالة أستاذية العالم في الأول والاخر وهم انفتاحي وتبشيري يملك بارانويا عظمة أكتر ما يملك بارانويا اضطهاد لكن وهم رسالة حمايتك من نفسك هو بارانويا اضطهاد، العالم كله بيحاربنا وهو بصفته مارشالجي تلقي وحيه من خدود القائد ونحنحة ذبذبات صوته، هو الوحيد العارف بالمؤامرات دي كلها، اللي بتبدأ من كوريا الشمالية وما بتنتهيش عند النرويج.

المارشالجي صاحب الرسالة، اللي هي في الحقيقة ريالة، واثق جدًا من رسالته، زي أي مريض في عنبر الأنبياء في مستشفى الخانكة ما هو متأكد من إدعائه النبوة أو المهدية، يمكن كل مريض بالفاشية عنده نفس الوهم #ما_علينا


ربنا يبعدنا عن أصحاب الرسالات والريالات.

الأحد، 14 سبتمبر 2014

عن #جبنا_آخرنا والأسوار الحاجزة بيننا



عن #جبنا_آخرنا والأسوار الحاجزة بيننا
ياسر عبد الله

(تغريدات مُجمعة ومرتبة ومنقحة)
حابب أرغي شوية بخصوص #جبنا_آخرنا وكام اعتراض قريته خلال الأيام الأخيرة وبعضها اعتراضات مُكررة عنها وعن غيرها، كلامي مش بغرض اقناع/تجنيد حد لكنه مجرد عصف ذهني وتفكير بصوت عالي، عشان نفهم سبب #جبنا_آخرنا أو غيرها لازم نرجع نعصف ذهننا بخصوص نظام الحكم في مصر والنظام الاجتماعي وإزاي بيعملوا في توازي وترابط دائم، التوازي والترابط الدائمين دول، غرضهم كما هو غرض كل أعمال الأنظمة هو تأبيد النظام واحتواء أزماته بل وتجنيدها لتجديده في أغلب الأحيان، وعشان نعصف ذهننا بخصوص النظام سواء نظام الحكم أو النظام الاجتماعي السائدين في مصر لازم نتأمل لحظة ثباته المُثلى وهي نفسها لحظة الحنين السائدة كمان، لحظة ثبات النظام المُثلى في مصر اللي كان النظام بيبذل فيها أقل مجهود عشان يستمر هي نفس فترة النوستالجيا اللي بيمارسها الوعي المجتمعي الجماعي واللحظة دي حاليًا هي فترة التمانينات-التشعينات، أو النصف الأول من حُكم مبارك، تقريبًا من 1982 إلى 1998، في الفترة دي سادت معارضة مستأنسة تمارس النقد لا النقض، يعني مش عاوزة تغير النظام هي عاوز تعدله بس، والمعارضة دي بالنسبة للنظام بتعمل كخلايا المناعة بالنسبة للجسم، ومعارضة أخرى مسلحة والمعارضة المسلحة سادت في المناطق غير الحضرية حتى جوا الحضر نفسه، أو بعبارة أخرى كانت في الهيش والجبل مش في قلب البلد، ولعبت دورين أساسيين الدور الأساسي الأول دور العدو الرئيسي لنظام الحكم ونظام المجتمع، أو بعبارة تانية دور الخطر الأحمر في أمريكا المكارثية The red menace  والدور دا كان فزاعة أمام أي معارضة محتملة غير مسلحة، وكان بيؤدي للمعارضة المستأنسة إنها تروح أكتر وأكتر تحتمي بالنظام خاصة مع حوادث قتل أو محاولات قتل لمثقفين أشهرهم فرج فودة ونجيب محفوظ، اللي كانت بتؤدي بالمثقفين بدل نقد النظام للتعاون معه ضد (الخطر القادم) في حاجات زي سلسلة المواجهة اللي كانت بتصدرها الهيئة العامة للكتاب، السلسلة اللي كانت بتصدر على هيئة كتيبات (تنويرية) بعضها هام لكنها صورت الدولة والنظام بمنظر المستبد العالم العادل، الدور التاني اللي لعبته المعارضة المسلحة دور العامل الحفاز لأي قمع يمارسه النظام والدور دا خلا النظام السياسي السائد بمعارضته المستأنسة والنظام الاجتماعي كمان بمعارضته المحتملة، يرضوا بحدودهم ويخافوا من العين الحمرا، ليه اخترت سنة 1998 كنهاية للمرحلة؟ عشان كام سبب منهم إني أتذكر إن المراجعات والمصالحات مع الجماعات الإسلامية المسلحة انتهت في ذا التاريخ ومنها إن 1997 شهد آخر عملية إرهابية كبرى ضد سائحين اللي هي عملية الدير البحري وبعد كدا انحصر الموضوع تقريبًا في شبه جزيرة سيناء.
المهم بعد 1998 ابتدا يحصل تراكم بدائي لحالة سخط على النظام، وبقى فيه حوادث غير مقنعة زي حادثة أبو العربي في بورسعيد اللي اتقتل عشان هيقدم شكوى والموضوع ابتدا يتصاعد بسبب ظروف أخرى خارجية زي الانتفاضة الفلسطينية وحركة دعمها في مصر، وحرب العراق ومظاهرات معارضتها في مصر لغاية ما وصلنا 2005 وتعديل الدستور النظامي عشان يبقى فيه انتخابات رئاسية، وحركة المدونين في 2006، وبعد كدا إضراب 6 أبريل 2008 وانتم عارفين الباقي.
 بعد 2011  فيه حالة قلق عام، لا تشمل فقط نظام الحكم والنظام السياسي لكنها بتنسحب على النظام الاجتماعي التقليدي اللي فجأة إحساسه بالانهيار زاد جدًا ومع كل أزمة جديدة بيواجه بالنوستالجيا الفارغة لحنين للحظة ماضية متخيلة، هو عبر عنها بالتسعينات، لحظة كانت أقل قلقًا أكثر ثباتًا ودي نفس اللحظة اللي نظام الحكم عاوز يرجع لها، نظام سياسي زائد فيه تحالف واسع متخيل ضد خطر متخيل ومنفوخ فيه "مش أحسن ما داعش تيجي" إلخ، إيه علاقة الحدوتة الطويلة دي ب #جبنا_آخرنا أو #كفاية أو غيرها؟ أقول لكم.
 طوال فترة حكم أي نظام فيه مد وجزر لقوى تهدف نقضه من أساسه وسقوطه الموجات دي عاملة زي موج البحر قدام قلعة، يا إما تبقى عالية والقلعة تقدر تصدها بس الموجة تشرخ القلعة شوية، يا إما موجات ضعيفة لا تؤثر وعشان نكمل التخيل فالقلعة زي سور الصين العظيم محاوط مدينة كاملة عمرها ما شافت البحر ومليئة بالبشر كأن السور هو  الجدار اللي قال عنه أمل دنقل
"آه .. ما اقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق
ربما ننفق كل العمر .. كى ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال .. مرة"
البشر اللي ساكنة المدينة الخيالية دي زينا بشر اعتادوا احترام الجدران المرئية وغير المرئية والتعامل معها كأقدار ثابتة، لكن فيه بعضهم عندهم أمل في الموج كل موجة يزيد أملهم إنها تكسرالجدران وتدخل لهم البحر المحرومين منه، وكل لما الموجة تعلا وتدق باب القلعة الأمل يزيد والبشر المؤمنة في الموجة يزيدوا إيمان بقدرتها لكن كل ما كانت الموجة ضعيفة عدم المؤمنين بيقل وما بيفضلش غير قلة مندسة يحسبها أهل المدينة مجانين، عاملين زي الشيخ جلال اللي بينخور السور بعضمة، البشر المجانين دول هما (الآخر) بالنسبة لسكان المدينة، سكان المدينة اللي اتعودت على الجدران واتعودت على مراقبة وعقاب قُواد القلاع والطوابي.
نرجع بقى مرجوعنا للمدينة الحقيقية مش مدينة الخيال ولحظة ثباتها ونوستالجيتها، هنلاقي جرايد معارضة ما حدش بيقراها واللي بيقراها بيتمهزءوا عليه سواء في الدراما ولا في الواقع "يا عم سيبك منه شكله من بتوع المعارضة" ومتصورينه آخر على حافة الجنون بيقول كلام غريب زي فيلم (فوزية البرجوازية)، ودا حصل مع كل موجة جزر، لما الناس اللي بتنزل تخف يبتدي الكلام يتقال "دول بتوع السياسة" "دول النشطاء" وكل ما الموجة تعلا الكلام يقل، مفيش موجة واحدة بتهد، لكن الموجات مع الوقت بتفرق
"little drops of water
Little grains of sand
 Make the mighty ocean
 And the pleasant land"
لكن التراكم دا، اللي شكله بديهي، بيتواجه باعتراضات، ودا طبيعي لأن سكان المدينة المحرومة من البحر بسور وقلاع محرومين من التواصل مع أنفسهم بأسوار وقلاع غير مرئية.
نرجع ل #جبنا_آخرنا، أي حملة معارضة لنظام لها أغراض مباشرة بتعبر عنها وأغراض بتكشف عنها في مسيرتها غرض الحملة المباشر التضامن مع المضربين المعتقلين بسبب قانون النظام اللي جرم بيه التظاهر، وغرضها الواضح كمان تعبير إننا اللي برة طهقنا خلاص و#جبنا_آخرنا من الزهق وصبرنا نفد، ومش معناها خالص إننا جبنا آخرنا وبقينا قليلي الحيلة، بس لها غرض كمان مهم وخفي، إن الشيخ جلال اللي بيحفر الجدران بعضمة ما يحسش إنه لوحده، وإن المعارض ما يحسش إنه الآخر المجنون المنبوذ المعزول ولأن الحملة حملة مطلبية ولسه ما أسقطتش النظام وبتعمل في وسط نظام الحكم والنظام الاجتماعي مسيطرين عليه، فهي بتواجه باعتراضات طبيعية ناتجة عن سيطرة نظام الحكم والنظام الاجتماعي وسيطرة الذهنية اللي بتساعدهم ع الحكم، سيطرة ال govern-mentality على سكان المدينة اللي ع البحر،
 أول اعتراض بيتقال على أي حملة زي #جبنا_آخرنا أو أي تحرك بسيط "وهي يعني هتعمل حاجة ولا انتم هتعملوا حاجة" دون تحديد إيه هي أصلًا (الحاجة)، وعشان نفهم الاعتراض دا ونابع منين لازم نعرف إننا أولاد نظام مُعسكر، سياسيًا واجتماعيًا، مش بس سنة 2014 لا دا 1954 ويمكن من 1824 كمان، وكلنا اتولدنا في ظل النظام دا عشان نحترم القوة والسلطة والسيطرة، واتعلمنا تاريخنا إنه كله فشل لغاية ما جا البطل المخلص وحفظنا الأغاني اللي بتهتف له "ثوار ... مع البطل اللي جابه القدر" و"الله ع الشعب وهو بيهتف باسم زعيمه" اتعلمنا تاريخنا إن ثوارته كلها فشلت من 1881 ل 1919 لغاية ما جات حركة الجيش المباركة -زي ما سموها في الأول- خدت بإيدنا ونقذتنا إلخ إلخ في يوليو 1952، في ظل الذهنية دي بنحترم الانقلاب وبس أو بمعنى أصح مفهومنا عن الثورة منحصر في (الثورقلاب) re(coup)lution  ومستنيين حد ييجي يعملها فنهتف له ونسميها ثورة ونخرس اللي يسميها انقلاب والذهنية دي اتربينا عليها، وسمعنا اعتراضها قبل كدا وقت الاتحادية وما بعدها "الاخوان سيطروا وانتم خلاص مش هتعرفوا تعمل حاجة" وكانت بتجهز وبتعيد عمل عقلية "لا غالب إلا الميري"، احنا أبناء العقلية ديه اتربينا جوا militarized camp اللي بالصدفة إن الكلمتين في العربي "مُعَسكر".
الاعتراض التاني على أي حملة زي #جبنا_آخرنا "وهي الناس هتحس بيكم" الحقيقة إن البشر اللي ساكنين جوا المدينة أم أسوار مرئية وخفية مش بيحسوا بأي حد غير جسمهم، حتى جسمهم ما بيحسوش بيه قوي، هما قابلين وراضيين بالسور الخفي اللي عازلهم عن بعض لكن السور مش قدر ولأن السور مش قدر، المجانين اللي زي الشيخ جلال بيحفروا فيه بمعلقة، والبشر اللي محبوسين جواه برضه قابلينه كقدر لأنهم اتربوا على كدا من زمان، كام مرة اتربينا إن الغريب اللي بيبص لنا عدو؟ كام مرة سمعنا "خبي ورقتك عن زميلك" "داري منه الملزمة لا يجيب مجموع زيك" "صاحبتك دي منفسنة منك وبتحسدك" كل الجمل دي بتسيد عقلية "كلهم أعدائي ولازم أخضعهم وأن ما قدرتش لازم اعتصم بالسور يحميني منهم" وأكيد أي عمل عاوز يهد السور يبقى مش مقنع لها.
الاعتراض التالت على حملة زي #جبنا_آخرنا "إنتم بتكلموا نفسكم والإعلام مش هيحس بيكم"، لكن الإعلام مش محايد أصلًا، هو شغال عند كبار القلعة اللي ع البحر، ولما الموجة بتعلا بيعمل نفسه مع السكان اللي عاوزين يثقبوا السور ويهدوه، لكنه عبد مخلص لصاحب القلعة والسور المرئي والخفي، التلات سنين اللي فاتوا الموج علي وكسر كابينة صحاب القلاع ووقع بعضهم، فالإعلام خد ساتر من غضب الموج والبشر ودخل جوا لغاية ما ييجي قيصر جديد، فلما قيصر الجديد رجع الإعلام لخدمة سيد القلعة والسور والقلاع المحيطة الخفية والمرئية، وأهل المدينة اللي اتخدعوا صدقوا إنه معاهم لكن اللي ما صدقوش عارفين كويس وبيضحكوا في سرهم ويقولوا "ما احنا اتفقنا من الأول إنها وكالات من غير بواب ولا صاحب، وصحاب اللي بيدفع لهم ويكسبهم".
الاعتراض الرابع "احنا شعب وسخ مش بتاع عمل جماعي ولا ثورة" ودا بنسمعه طول الوقت وفي أي مناسبة، البعض - أنا منهم - بيقول كدا من يأسه اللحظي والبعض الآخر مؤمن بكدا، لأنه أتربي في المُعسكر على احتقار نفسه واتربى في المدينة أم سور حاجز البحر عنها على عقدة الأجنبي الساكن برة السور ولأن تربية المعسكر علمته يحتقر نفسه وأقرانه، بيفسر العمل الجماعي إنه زي طابور الجيش، وبيحترم قوي رنة الكعب المنظمة اللي من غير روح، لما بيتكلم عن روح الفريق يبقى بيقصد روح الفريق أركان الحرب قائد الفرقة في الطابور، بيحترم الموسيقا اللي مش باين منها غير المايسترو ويحتقر المزيكا اللي بتعتمد على ارتجال العازفين من غير قيادة، بيعشق أوركسترا الجيش الأحمر العسكري ويحتقر التخت والجاز والسمسمية، وعقدته مش هتنحل غير بانضمامه للي شايفهم أحسن منه، مؤمن بإن الشعب لا يستحق الثورة -مش بيقولها في ساعة يأس وقرف وخلاص- فهينضم للحكام، مؤمن بأن الأجنبي خارج السور افضل منه كقضاء وقدر غالب مش كنتيجة لتطور تاريخي مختلف فهيهاجر له ويشاركه سيطرته وهيمنته واستعماره وعنصريته.
 دول الكام اعتراض اللي قريتهم اليومين اللي فاتوا وحبيت أرغي عنهم، وكلامي مش غرضه إقناع/تجنيد حد، لكن "خد فكرة واشتري بكرة" وقلب الكلام في دماغك جايز بعد أسبوع ولا بعد شهر ولا بعد سنة أو سنين تحس إنه صح، غرض كلامي الوحيد تبص حواليك وتشوف الأسوار اللي محاوطاك وتحس بيها.

*شكرًا للصديقة آسية أحمد على تجميعها للتغريدات.

** تم التنسيق باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي.

السبت، 4 مايو 2013

عزيزي السيد سميث عميل النظام


عزيزي السيد سميث عميل النظام

في الأسبوع الثاني من اعتصام التحرير الأول (أيقونة ما قبل تولي المجلس العسكري إدارة شئون البلاد) التقيت أحد الصحفيين العاملين في جريدة المصري اليوم وفي أثناء الدردشة قلت له "مش ناويين تقلبوا مجدي الجلاد بقى" وكان رده هزة كتف وجملة من قبيل "مجدي الجلاد ما بيتدخلش في سياسة التحرير" أو بمعنى آخر "الصحفي راضي ورئيس التحرير راضي مالك إنت بقى ومالنا يا قاضي"، كان ذلك في الأسبوع الثاني من الاعتصام بعد خناقة الجمل حين اكتشف الميدان فجأة أن للبلد دستور يخشون من فراغه، كان هذا والثورة "لسه في الميدان"، الميدان الذي لم تغادره أبدًا وماتت عنده.

الرد الطبيعي بهز الأكتاف وجملة من قبيل نظام الجريدة أو سياسة التحرير كانت هي الرد المعتاد لأي دردشة من قبلي ألمح فيها إلى ضرورة تثوير المؤسسات الثقافية أو الصحافية، بالنسبة للكثيرين كانت الثورة في الميدان يذهبون لها كل يوم لكنهم بعد ذلك يرجعون إلى المؤسسة العاملين بها، يتبعون سياساتها ويكتبون بلغتها، لكنهم (ثوريون) والسر ؟ "إنهم بيروحوا الميدان"، يذهبون للثورة لكن خارج الميدان يذهبون ويدعمون النظام، لكن في بعض الأحيان يصنعون حسابًا افتراضيًا يعيشون فيه كـ (ثوريين) على الفيس بوك أو تويتر، ثوريون يستخدمون أجهزة النظام ليعملون، لا ليختطفوها لكن لتختطفهم (انظر détournement).

ظل هذا هو السائد حتى يومنا هذا، لو قلت لأحد الأصدقاء الآن عن عمله في الشروق التي صارت بوقًا نظاميًا لقال لي "علينا أن لا نغادر مواقعنا ونظل نناضل من الداخل"، لكنه في الحقيقة لا يناضل لا هو ولا غيره، لا يملك الاعتراض على جملة مثل مناهضي الاخوان التي بدأت الشروق في استخدامها، هو وأمثاله يحافظون على مكياج ما لهذه الجريدة أو تلك لتظل جريدة مختلفة ليست كبوق النظام الحرية والعدالة، لتظل محافظة على بعض الاتزان الوهمي، يرسم عمرو سليم فيها ضد الاخوان بجانب مقال البوق الاخواني فهمي هويدي، ولا يملك الصحافيون فيها الاعتراض على جملة مستخدمة أو مقال مكتوب، سيرد الصحافيون "الصحافة مش شغالة كدا انت مش عارف القواعد"، لا يا عزيزي السيد سميث أنا أعرف القواعد جيدًا، هذه القواعد هي النظام/السستم/المصفوفة وأنت تطيعها، لا تعمل القواعد من خلال مجلس الإدارة لكن تعمل من خلال العملاء مثلك يا سيد سميث، تعمل بزرع فيروساتها في كل مكان وقبولها على إنها قواعد منطقية مسلم بها.

عزيزي السيد سميث أنت عميل للنظام الذي تخدعني وتقول أنك تقاومه، أنت عميل له لا تستطيع الاستغناء عن القروش القليلة التي تقبضها وانت تغني معي في لحظات سكرك في البارات "وان جعنا شبعنا بتتقضى ما نبعش الكلمة بميت فضة"، عزيزي السيد سميث أنت عميل للنظام، حتى عندما تُنشئ مؤسسة (بديلة) فتعمل من خلال قواعد نفس النظام ولا تتمرد، عزيزي السيد سميث أنت عميل وأنا لا أحب العملاء.

الأربعاء، 20 مارس 2013

الثورة والجدران


الثورة والجدران

فيالشهر الرابع من العام الثاني للثورة المصرية (أبريل 2012)، يتفق جمع ما على هدم جدار حجري بُني في القصر العيني، أصل متأخرًا كعادتي، تقودني الصدفة للوقوف على الطرف الأيسر من كابل كهربي مربوط بإحدى حجارة الجدار، أمامي مباشرة، لا يفصلنا سوى حد وهمي من سواد الكابل فتاة لم أرها من قبل، ألحظ إن يديّ مجاورتان ليديها على نفس الخط المتخيل، أتذكر أنها فتاة فانسحب للخلف، فيما بعد سأرى تلك الفتاة مرة أخرى، دون أن أفكر حتى في إلقاء السلام عليها.
ربما لم تكن العلة في الجدار الحجري، المتجسد القائم بالفعل، الذي حاولنا هدمه سويًا، ربما كانت العلة في جدار آخر، واحد من جدران عديدة متخيلة بنيناها لتفصل ما بيننا، يكتب غوستاف لانداور عن الدولة، أو النظام(السستم بحسب خطاب الرفاق في مجموع راديكال بيروت) كشرط، كحالة جمعية، فالدولة/النظام/السستم، بحسب لانداور، هي نحن، نحاول هدمها ونحن نبنيها في الوقت ذاته.
الجدار الأول: ممنوع الاقتراب أو التصوير:
ربما لن ينس المشاركون في انتفاضة يناير، التي أطاحت بالجنرال العجوز مبارك من على كرسي الحكم وبدأت الثورة المصرية، مشهد نزول الجيش إلى الشارع للأبد، في السادسة من مساء عاصفة الثامن والعشرين من يناير 2011، يأمر الجنرال جيشه بالنزول للوقوف كجدار عازل بين دولته وبين الثورة التي كانت في مهدها.
نزل الجنود لكنهم لم يتعاملوا طبقًا للتصورات الكلاسيكية المكتوبة في تاريخ الثورات، لم ينشق الجنود والضباط عن قيادتهم، لم يتآخوا مع الثوار ويخلعوا ملابسهم الرسمية لينضموا لصفوف الثورة، حتى التنحي سيظل الجنود ومركباتهم العسكرية جدارًا وهميًا حول الميدان، سيحول الزي الرسمي الكاكي الميدان إلى منطقة لها جدران شفافة لكنها عازلة، إلى مستنبت زجاجي ينبت فيه نبتٌ تحت المراقبة والاختبار.
يكتب مارتن هيدغر عن الزي الرسمي الموحد والغرام به كمحاولة من العائشين في العالم المتشظي لتلمس صورة واحدة متناسقة، يخلق الزي الموحد Uniform وحدة النسق Uniformity يخلقها كجدار ذي لون واحد، كاكي يرتدي بيادات، الكثيرون الذين سخروا من خطاب شفيق عن البونبون لم يدركوا أنهم يجلسون في صوبة ذات جدران زجاجية بوضع أشبه بالبونبون المغلف، سيُبنى هذا الجدار عبر الاختلاف في الزي والدرجة، سيكون الهتاف "الجيش والشعب إيد واحدة"، حيث يقدم الجيش باني وحامي الجدار على الشعب العائش في الجدار، وبعد التنحي سيهدم الجيش هذا الجدار على من تبقى من الشعب وخرج عن نص الاتساق الموحد بصحبة موسيقى تصويرية من هتافات "الشعب يريد إخلاء الميدان".
الجدار الثاني: ويسألونك عن الاحتجاجات قل هي فئوية:
قبل التنحي مباشرة، تنطلق شرارة الاحتجاجات العمالية، العامل ذلك الكائن المجرد في كتابات اليسار التقليدية، وبسبب من هذا التجريد نفسه، يمارس احتجاجه المعيشي على حذر، هو يعرف جيدًا إن صاحب العمل قادر على طرده في لحظة، يعرف جيدًا أن عيشه يقطع بجرة قلم، ويعرف جيدًا أن الأفندية الذين جردوه لن ينفعوه.
بعد التنحي، يهتف الجمع للعمل، الجمع الذين اعتبروا بصورة أو بأخرى أن غاية الثورة رحيل البقعة السوداء التي تشوه صورة المثال، الجمع الذي أنتج الكيتش القائل إن الثورة تبني وتهدأ، سينشق العمال عن الجمع، سيخرجون عن الجسد الثوري الموحد، سيبني حولهم جدار عازل، قوامه الاختلاف في الطبقة، الطبقة التي لا تستطيع أن تجوع فترة أطول، فيصمها الباقون بالفئوية.
الجدار الثالث: تعال نهدم الصلبان:
أثناء استنبات النبات في صوبته الزجاجية، في الاعتصام الأول السابق على التنحي، كيتش الثورة بوصفه النفي المطلق للخراء وفخرها الأزلي، تنتشر الصور، معتصمون يصلون وحولهم جدارٌ وهمي، جدار عليه صلبان منقوشة على الرسغ.
قبل أن تتم الثورة شهرها الأول سيهدم البعض هذا الجدار في دهشور، الثورة التي لم تكسر ثنائية الدين، لا تستطيع أن تحمي جدران مكان للتعبد، لا تستطيع أن تحمي مبنى كنيسة، لأنها تغاضت عن شيء هام جدًا لتبرز مثالها، لتر نفسها خالية من الخراء مفعمة بطهرانية المثال، صدرت صورة الجدار الوهمي من الصلبان التي تحمي صلاة المسلمين، دون أن تدري أنها تعاود بناء جدار الفصل بين أصحاب الدينين مرة أخرى.
في أكتوبر 2011 سيهدم الجدار الأول الكاكي الجدار الثالث المكون من أجساد حاملي الصلبان على الرسغ، سيهدمه لأن الجدار يعزل النبات ويُسهل اقتلاعه.
الجدار الرابع: يا حادي العيس رفقًا بالقوارير:
لكني انسحبت سريعًا يومها، خشيت وأنا أشارك مع يديها النسويتين هدم الجدار الحجري أن أمسهما، التحرش تهمة جاهزة إذا حدث هذا التماس العفوي، والثورة لتنف عن نفسها فعل الحب، مارست جدارًا عازلًا بين النساء والرجال داخلها، لم تعِ الثورة أهمية كسر هذا الجدار، زادته عبر حمائية الذكور على النساء وإبعادهن عن محيط الاشتباكات.
في الثامن من مارس 2011، في صبيحة هدم جدران كنيسة دهشور، سيكسر حياء ونفس بعض القوارير في ميدان التحرير، ستكون تلك الحادثة العنف الجنسي الظاهر الأول ضد القوارير، ليعاد بناء جدران النوع الجنسي عبر ألف حاجز وحاجز، النساء معزولات خائفات على سلامتهن الجسدية، لا من قتل بل من إهانة وامتهان، ستنسى الثورة وهي تنفي عن نفسها تهمة المعاشرة الجماعية في الميدان أن تهدم جدار الفصل النوعي بين رجل وامرأة، ستكرسه عبر مليون شكل وشكل.
في نوفمبر 2011، في اشتباكات شارع محمد محمود ستدفع النساء بعيدًا فهن لسن جديرات بالمواجهة المباشرة مع جدران السلطة، سيدفعن بعيدًا لحمايتهن ثم سيتم نفي مشاركتهن في الاشتباكات، وبالتالي نفي الرتبة الثورية الكيتشية الصف الأول عنهن، من قبل من نفس من قاموا بدفعهن بعيدًا بدعوى حمايتهن.
السلطة بوصفها جدران عازلة:
لا يلبس الإمبراطور ملابسه، لكن شعبه لا  يلحظ ذلك، يتغزل الجميع في ملابس الإمبراطور حتى تقول طفلة أن الإمبراطور عاريًا، تكسر كلمات الطفلة الجدار الوهمي للسلطة ببساطة وأصالة غير مصطنعة، هكذا يحكي لنا هانز كريستيان أندرسن.
كيف بنى الاعتصام الأول منابره، في الأول من فبراير عشية خطاب "لا أنتوي"، يقف علاء الأسواني على رصيف هارديز، ذات الموقع الذي ستبنى فيه المنصة الرئيسية، ليفند مزاعم الجنرال العجوز ووعوده، على الرصيف لا يفصله عن المستمعين سوى السور الحديدي للرصيف، يبنى جدارٌ وهمي لسلطة الخطاب، جدار شفاف مثل الكلمة، لكنه حقيقيٌ مثل حقيقية حائط المسرح الأرسطي الرابع الفاصل بين الجمهور والممثلين.
كيف تخيل المحكومون حكامهم قبل التصوير والرسم، لنتصور الأمر، الوالي/السلطان/الخديوي في قلعة الجبل، حوله جدار حقيقي، "قصر الوالي طبعًا عالي"، يصدر الفرمانات النازلة من علٍ على رؤوس المحكومين، بعد التصوير ينزل الحاكم لهم، يسكن في مساكنهم عبر صورته، لكنه يزل خلف جدارٍ لا يمس، ولا يرى إلا عبر وسيط، الجدار، جدار القصر، جدار الحرس، جدار المنصة حتى وهو يفتح جاكت البدلة قائلاً "أنا مش لابس واقي" يظل هناك جدار من سلطة الحكم بينه وبين من يروه.
الجدران أكثر عمقًا وأصالة من جدران القصر، تنتج عبر كل ثنائية، الجيش أو الشعب، العامل أو الناشط، المسلم أو المسيحي، الرجل أو المرأة، لا يمكن تصور الجدار دون تصور ثنائية ما ما بين داخل الجدار وخارجه، ما بين أمامه وخلفه.
من الجدار الحجري إلى السور النباتي:
سكننا سويًا، وهدمنا ما بيننا من جدران، لنحل محلها أسوار من نباتات وورود وأزهار، ونهدي بعضنا من ورود السور النباتي، الحاجز سيصبح جزءًا من صداقتنا المتخيلة القائمة على المساواة.
تلك صورة متخيلة، رومانسية لمدينة من مدن القصص المصورة، إنها مدينة البط، التي انعكس فيها حلم البشر في بناء يوتوبيا ما، مدينة البط شفافة بلا جدران، إلا جدار المال، خزانة عم دهب، هي الجدار الأكثر عزلاً فيها القائم أمام الجميع، لا عصابة القناع فقط، بل أمام ابن أخيه بطوط أيضًا.
لنتصور الثورة كمدينة متخيلة، في لحظة ذورة الاشتباك، الشبيهة بذورة الحب، في يوم الثامن والعشرين من يناير، لنتخيل كيف سقطت الجدارن مرة واحدة، سقطت دون أن تُسقط كاملة، لأن الثورة لم تقرأ خرائها جيدًا، ولم تع كيف تهدم الجدران العازلة بين خلايا جسدها.
الجدران معادلة غير مرئية ما بين ضعف السلطة/النظام/ السستم وقوته، تزيد وتنقص لكنها دون استمرارية هدمها، ستظل قائمة ومتجددة.



الأربعاء، 13 مارس 2013

الثورة بين المنبر والمبولة


الثورة بين المنبر والمبولة
المنبر والمبولة :
ثلاث مشاهد لا تفصلها إلا سويعات قليلة تحدث في مكان واحد في يوم واحد، الأربعاء 9 فبراير 2011، أثناء اعتصام التحرير الأول (النفي المطلق لخراء الثورة كلها).
مشهد أول : على منصة الإذاعة الشعبية أمام مقهى وادي النيل يمسك الرفيق سامح عبود بمكبر الصوت ليلقِ كلمة مرتجلة عن عدم كفاية الاعتصام كفعل ثوري وضرورة تطويره عبر لجان شعبية منتشرة في كل الجمهورية تمارس السلطة المباشرة، تحت المنصة يقاطعه شخص، بعنف يصرخ قائلاً "مفيش حاجة هتحصل غير لما مبارك .. يمشي يمشي يمشي"، ويبدأ في ارتجال هتاف، لا أفهم سر عداء الرجل المفاجئ تجاه سامح، أسكته بصوتٍ عالٍ، بعد انتهاء المشهد أدرك المسألة، لقد جرح سامح بكلمته عن عدم كفاية الفعل كرامته الثورية، لا يتصور الرجل أن للاعتصام (الثورة بحسب التعبير المتداول وقتها) خراء ومساوئ.
مشهد ثاني: على منصة التحرير الرئيسة، منصة هارديز كما يعرفها الجميع، تقف فتاة وتصرخ بصوتٍ عالٍ "الميدان دا اتقتل فيه ناس مش جايين ترقصوا وتغنوا فيه"، أسمعها وأعلق داخلي بجملة إيما غولدمان "إن لم أستطع الرقص فتلك ليست ثورتي"، لكن تلك الفتاة لم تسمعني ولم تهتم، كل ما هم قولها وعقلها أن تنفي أن للثورة فعل آخر غير خلق المثال، تعلو الفتاة المنصة لتعلي من قيمة المثال، المثال هو النفي المطلق للخراء والسوء والفضلات، المثال لا يحتمل أن يكون به أشياء مبتذلة عادية كالرقص والغناء والسمر، لا يحتمل سوى الصعود على المنبر وتكريس المثال ونفي الخراء.
مشهد ثالث: في الجزيرة الوسطى أمام الكعكة الحجرية، حمامات مرتجلة مصنوعة من خشب ربما كان من بقايا أخشاب المنصة، لا يقع بعيدًا عن المنصات/المنابر التي تعلي من قيمة المثال وتنفي الخراء، في الشكل الأولي للدولة يبدأ البشر ببناء المسكن الخيمة والمنبر المنصة والحمام مقر تجمع الخراء.
في المسجد/الكنيسة/المعبد يعتلي الخطيب/الأب/الحبر المنبر ليخطب عن المثال، عن الفضيلة ونفي الخطيئة والخراء، في أحد أطراف المسجد/الكنيسة/المعبد يقع الحمام، النفي المطلق للفضيلة والمنتج الأساسي للخراء، وبينهما يجلس جموع المصلين/ الشعب.
في الميدان يعتلي الخطباء المنصة/المنبر ليتحدثوا عن الثورة المثال التي لا تقع فيها الخطيئة ولا تنتج الخراء، في طرف الميدان يصنع المعتصمون الحمامات ليمارسوا فيها الخراء، بين المنبر والمبولة تقع خيام الشعب الثائر.
الكيتش يفسر الأشياء:
في لحظة تتقارب السماء والأرض، يقع المنبر في المبولة، يتجادل ابن ستالين الزعيم المفدى، القائد الأسطورة والضرورة، بخصوص الخراء في حمامات المعسكرات النازية، يقول له الضابط الألماني أن عليه أن يمسح خراءه، فيسقط عالم المثال، يلقي ابن ستالين بنفسه على الأسلاك الشائكة المكهربة ويموت (ميلان كونديرا – خفة الوجود التي لاتُحتمل).
لا يقتل ابن ستالين نفسه عند وقوعه في الأسر، يقتل نفسه عند اضطراره بالقوة للتعرف على خرائه الخاص، المثال يجرحه الخراء، والنظريات التي تعتمد على تجريد المثال تجرده من كل خراء ممكن، يكتب كونديرا "كلمة كيتش في الأساس هي نفي مطلق للخراء" ويكتب أيضًا في مقال حول كلماته المفضلة حول حاجة الإنسان الكيتش للتعرف على نفسه في مرآة الكذب المجملة، حاجته لتجريد نفسه عن من حوله ونفي أي خراء محتمل.
صدمة الإنسان الأول حين اكتشف خراءه، حين اكتشف أن التفاحة التي أخرجته من فردوسه تتحول إلى قطعة بنية اسطوانية رخوة، وحين اكتشف إن الطعام الشهي يتحول إلى خراء داخله، الإنسان هو المنتج الوحيد للخراء الإنساني، لذا ينفيه دائمًا ويسعى إلى دفنه مثل القطط، وينفي أن يكون هذا الشيء صدر عنه، لا ينتج الخراء الإنساني إلا عن الإنسان، الطعام جميل المنظر ما لم يمسه فم بشري.
المناضل المثال لا يذهب إلى المبولة:
في الأسبوع الثاني من اعتصام التحرير الأول يخرج علينا صاحب الفيل في المنديل قائلاً "الميدان طبل وزمر وعلاقات جنسية كاملة"، أتوقف عند الطبل والزمر لأجد المنطق المحرك نفسه لخطيبة منصة هارديز، لا تصلح ثورة المثال بطبل وزمر ورقص.
النفي اللاحق لعبارة صاحب حاحا وتفاحة يقع في نفي الفعل نفسه، لا يمارس الثوار الجنس، وليس لديهم أعضاء جنسية تنتج الخراء، لنتخيل المناضل المثال غيفارا بعد خطبة عصماء يجلس على قاعدة الحمام ليخري أو يقف على المبولة مشلحًا بنطاله يتبول، لنتخيل الزعيم الكاريزما جمال عبد الناصر بعد خطبة تأميم القناة مصابًا بالاسهال، أو بعد خطبة هنحارب هنحارب خالعًا ملابسه، عاريًا ينادي على أم خالد "ارفعي رجليكي يا مزة"، الجنس مثل الخراء فعل سري لا يصلح تخيل الثائر المثالي وهو يمارسه، لا عجب أننا نكشف في الجنس عن أعضاء لا نكشفها إلا أثناء فعل الخراء أو أثناء نفي الخراء والاغتسال منه.
الثائر المثال كنفي مطلق للخراء:
بعد التنحي وإنجاز مهمة المثال كان علينا الاتحاد جميعًا بالمثال، من هنا تم توزيع بنود المثال، "ابدأ بنفسك .. احلف .. مش هأرمي زبالة تاني في الشارع .. مش هأعاكس .. مش .. مش"، أقسم أن أصبح مثالًا، فالثائر الحق لا يتبول ولا يعاكس، فالثائر المثال لا يملك أعضاءً جنسية تخرج فضلات وخراء.
تسقط الثورة في فخ مثالها، في رغبة البشر المكونين لجسدها المتخيل في شيطنة الآخر ونفي خرائهم الشخصي، تتحول إلى فعل داخلي، ابدأ بنفسك لا تشكل مشكلة إلا حين تتحول إلى فعلٍ ضمائري سيسقط في فخ التدين المؤسسي، طالما لم تنجز ثورة إصلاح ديني تعتبر إن الضمير شأن شخصي وخاص مثله مثل الخراء والجنس، لكي تبدأ بنفسك عليك أن تتعالى على خرائك، لا أن تعالجه، النفي المطلق للشيء يعني دفنه وإنكاره، ينكر الثائر المثال كل مساوئ فعله، ليس بالميدان تحرش هناك إرهاب جنسي من فلول النظام، يجيب الثائر المثال، لم يدخن أي معتصم حشيش داخل الخيم، يجيب الثائر المثال، لا يمارس الثائر الجنس خارج الزواج التقليدي، يقسم الثائر المثال، لا يشرب الثائر الخمر، (فالخمر منتجة للقيء الأخ التوأم للخراء)، يسقط الثائر المثال في فخ المثال، ومن أجل المثال ينفي كل ما عداه، يضع الواقع على سرير بروكرست اللص الأغريقي الذي كان يقطع أرجل الناس إن لم تناسب سريره، على الواقع أن يكون مثالي، فالمجتمع عظيم ويكفي إزاحة مبارك الخراء لكي نعيش في الفردوس، والشعب طيب ولا يجب سوى إزاحة الإخوان ليخرج المصريون أجمل ما فيهم بعد تطهرهم من خراء الإخوان.
يوم التاسع من فبراير 2011 لم أكن قد عرفت بعد مصطلح  "ميكروفاشية" المستخدم من قبل دولوز وغواتاري، لكني حين عدت إلى منزلي كتبت تأملاتي حول فاشية محتملة، ستنشأ من رغبة الثائرين الرومانسيين في نفي خرائهم ودفنه.

على الثورة الاعتراف بخرائها لتخرج من فخ فاشية المثال.