السبت، 24 سبتمبر 2016

عن ليلة مدرسية بعيدة

عن ليلة مدرسية بعيدة


في الصف الثاني من دراستي الإعدادية حضرت أول حصة درسها لنا، كان الأستاذ وحيد من أولئك المدرسين أصحاب الكاريزما الذين يجبرونك على معرفتهم قبل أن يدرسوا لك، كان صيته يسبقه أو بعبارة أخرى، أليّق بحال لغتنا وقتئذ في أيام العقد الأخير من القرن الماضي، ألاطته الأمريكاني، كان مجهول التاريخ الشخصي بالنسبة لنا، سمعنا، والعهدة على الرواة، أنه بدأ التدريس كمدرس للدراسات الاجتماعية ثم حول مساره لتدريس اللغة الإنجليزية، وإن كنت شخصيًا أعتقد إنها شائعة أطلقها مدرسون منافسون، فعلى العكس من زكريا الدرديري في مدرسة عاشور عاشور، كان الأستاذ وحيد متمكنًا من تدريسه تمكنًا جعله المسئول عن الفقرة الإنجليزية في الإذاعة المدرسية، وكان يغيب في بعض الأسابيع لإكمال دراسته التربوية حسب شائعات المنافسين ولإكمال دراساته العُليا حسب شائعات أُخَر.
قلت إنها كانت ليلة مدرسية، رغم إن دراستي كانت صباحية كأغلب مدارس الضاحية البرجوازية مصر الجديدة، أذكر تلك الليلة بشكل جيد، ربما كانت مساء الأحد، فتدقيق التاريخ بعد مرور أكثر من 20 عامًا أمر صعب على ذاكرة عنينة كقضيب شيخ في التسعين، لكني أذكر تمامًا أنها كانت ليلة عزاء ضخم في دار مناسبات مصر الجديدة القريب من بيتي، عزاء وزير التموين أبو الدهب الذي كان يسكن قبل بضعة مبانٍ من مدرستي، وكانت تلك الليلة الأولى التي أرى فيها ذلك الكم المفرط من الشرطة خارج أفلام السيدة نادية الجندي نجمة البهاليل التي أحبها خالي في شرائط الڤيديو وشاهدها المرحوم أخي في السينمات الصيفية، كل ذلك النحاس بتعبير سائقي تاكسي القاهرة من الصعب نسيانه إذا لمع أمام صبي لم يتم الثانية عشرة بعد.
في تلك الأيام كانت الشمس تغرب في موعدها الثابت مثل هذه الأيام، لكن الليل كان يأتي أسرع، فخروج صبي بعد السابعة وقت الدراسة كان من الأحداث الاستثنائية التي تجعله يشعر بوطأة الظلمة وإن لم تكن تلك الليالي مظلمة كما تتذكرها ذاكرتي الصبية، المهم ... خرجت يومها للبحث عن كشكول كبير، ما قبل زمن الوفرة الورقية والاستيرادية كان العثور على كشكول محترم مُكون من أكثر من مئتي ورقة مطلبًا يستدعي الذهاب إلى مكتبات بعينها، كانت مواصفات الكشكول، التي أملاها علينا الأستاذ وحيد بهالته التي عززها بارتداء نظارتين، واحدة طبية وأخرى شمسية، متعمدًا ارتداء الشمسية داخل الفصل لإخفاء عينيه، مواصفات شبه مقدسة، كشكول كبير 200 ورقة غير مكعب بسلك ومجلد بجلدة سوداء أو بنية يشبه كشاكيل تحضير الدروس، لحسن الحظ كانت هناك مكتبة جديدة بالقرب من المدرسة وبيتي، في مساحة كبيرة احتلها الآن توكيل شركة اتصالات.
لم أذكر السبب بعد، لكني أذكر مشهد طلب الكشكول في حصة الأستاذ وحيد، كانت الحصة بعد الفُسحة مباشرة أو ربما كانت الحصة قبل الأخيرة فالشمس كانت آتية من خلفه منعكسة على ناظري الضعيفين في آخر شهر لي قبل ارتداء النظارة الطبية، أذكر ذلك الفصل جيدًا، 2-2 في الدور الأرضي، أعرف ذلك على وجه اليقين لأني عاودت زيارة المدرسة بعد الثورة حين تحولت للجنة انتخابية وأصر والدي على الإدلاء بصوته في استفتاء الشيخ يعقوب وكندا، يومها دخلت نفس الفصل بصحبة والدي ووجدت اسم عمي المرحوم في كشوف الناخبين #ماعلينا.
طلب منا الأستاذ وحيد الكشكول لمهمة مختلفة عن حل الواجب، مهمة تعمد أن يسميها بتسمية كانت غريبة على أسماعنا، نحن طلاب المدارس الحكومية الذين لم ندرس الإنجليزية في المرحلة الابتدائية من الأصل، "هتجيبوا كشكول كبير 200 ورقة مش سلك ومجلد بجلدة سودا أو بني وهتعملوه كشكول Vocabulary " ويومها استفسرنا جميعًا عن معنى الكلمة، فأصر هو على عدم الإدلاء بسر المعبد مكتفيًا بالصياح بلكنة أمريكية "Oh my God"، ربما كانت لكنة زائفة وخاطئة لكنها صادفت هوى في أنفسنا، نحن طلاب المدارس الحكومية الذي اعتدنا على دراسة المنهج الموضوع حسب لهجة بريطانية بلكنة مصرية وربما صعيدية تملى علينا بطريقة قصيدة عُمر نجم "يا ولاد سعيد يعني هاپي"، وكان الأستاذ وحيد هو الوحيد الذي يستبدل اللكنة المصرية بالأمريكية وإن لم يستبدل المنهج، هكذا علمنا الإنجليزية البريطانية حسب المنهج الموضوع بلكنة أمريكية ربما كانت خاطئة لكنها لاقت هوى في أنفسنا وهيبة وزادت من كاريزمته زيادة لا توصف وأكدت ألاطته الأمريكاني.
في الشهر التالي لتلك الليلة عرفني فجأة، في الامتحان الشهري الأول حصلت على أكبر مجموع درجات في مادته، وهو معدل حافظت عليه طوال السنة والسنة التالية، كنت دائمًا الأول أو الثاني في مادته، لكني لم أكن طالبه المفضل، حاز هذا التفضيل صديقي مصطفى في السنة التالية، كان مصطفى تلميذًا من تلاميذ المدارس التجريبية انتقل لسبب ما لمدرسة حكومية، فكانت حصيلته اللغوية أفضل ونطقه أقرب لأمريكية الأستاذ وحيد المفتعلة، أما لكنتي فكانت لكنة مصرية استدعت تعجبه، حين سألني بعد حصولي على أعلى درجة في امتحانه الشهري، الذي عبر عنه بعبارته الأثيرة "Oh my God".
في السنة التالية ضمني لفترة وجيزة لفريق الإذاعة قبل أن تستحوذ عليّ فقرة قراءة القرآن بالتبادل مع الأخ محمود، وعلمني فيها قراءة الإيجبشن جازيت التي لم أكن أعرف عنها سوى إفيه سمير غانم في 4-2-4، وكنت قد تعلمت قبلها أهمية كشكول Vocabulary الذي صاحبني حتى نهاية دراستي الثانوية، وبسبب ذاك الكشكول أدمنت شراء القواميس للكشف عما اُغمض عليّ فهمه من مفردات، بسبب Price list  التي لم أجدها في كتاب الأضواء اشتريت قاموس إلياس للجيب، وبسبب كلمة أخرى في الجازيت اشتريت أخاه الأوسط  إلياس المدرسي عربي - إنجليزي إنجليزي - عربي، وبسبب كلمة في الويكلي في الصف الأول الثانوي اشتريت أخاهم الأكبر إلياس العصري الذي أحتفظ به للآن، أما المورد فقد اشتريته بسبب كلمة قرأتها في مجلة العربي Hypothalamus  ولا أذكر سبب ورودها في المجلة من الأصل، فذاكرتي واهنة كشهوة عجوز في ثمانينها.
في الصف الثالث الإعدادي كنت قد صرتُ متدينًا، والتحى الأستاذ وحيد لفترة وجيزة بررها بألاطته الأمريكانية المعهودة إنها لالتهابات في بشرته الحساسة، لكن ذلك السبب لم يعجبني وقتئذ حين كنت أصادفه في مسجد غار حراء في ميدان المحكمة كل يومٍ بعد الدراسة، لكنه علمني في تلك السنة أن أُترجم ما أقرأه في الجازيت كل أسبوع، ودلني على كتب notes on grammar ونصحني قبل انتهاء الدراسة الإعدادية بدراسة اللغة الألمانية في المدرسة الثانوية، فهي أقرب للإنجليزية وتُقرأ كما تكتب حسب قوله الذي لم ينافِ الحقيقة، ولم يكن مثل لكنته الأمريكية المفتعلة.
لا أذكر مدرسي الإنجليزية في السنتين الأولاتيين من الدراسة الثانوية إلا طشاشًا، أولهما أسميناه يونس شلبي لشبهه الشديد بالممثل الكوميدي الراحل، كان مبقلظ الخدود رجعي التفكير قحف المظهر، أخبرنا ذات يومٍ أنه تزوج زوجته بالثانوية العامة لكي لا تطلب العمل بعد الزواج، وكسر لي ساعتي التي أرتديها في يمناي حين كنت أتفادى ضربة من ضربات عصاه، أما الثاني فهو أحمد ما، كان يدرس لنا بطريقة غريبة وكان يتعمد الإنحناء بشدة قبل الكتابة على السبورة مصدرًا لنا مؤخرته دون سبب، وحتى الآن لا أدرك سر فلقسته التعليمية.
المدرس الثالث في الثانوية كان مؤثرًا حقًا لكني لا أذكر  اسمه، ذاكرتي عنينة كقضيب أحد خصيان ألف ليلة وليلة، لكن تأثير ذلك المدرس لم يكن لغويًا، كان يحاول وبجد أن يكون لنا صديقًا، ولا زلتُ أذكر دموعه المترقرقة ذات يومٍ، وكان يعدني طالبًا صديقًا له فكنا نتبادل الكتب وأشرطة الكاسيت، حين قلت له "ما إنتم مش عارفين تحتوونا"، كنت مراهقًا يرغب في كسر صورة الأب أينما حلت حتى لو كانت بهذا الحنان، ربما أسقطت ذاكرتي العنينة اسمه بسبب ذلك الموقف حتى لا أبحث عنه وأعتذر له، لكنه لم يكن معلمي اللغوي على أي حال، كان كشكولVocabulary  هو معلمي الأول، في تلك الأيام في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، لم تكن قناة Nile TV قد صارت مُسخة يتمشى في أرواقها القطط الصفراء، وكنت أجلس أمام الأفلام العربية لأسجل مفردات الترجمة الإنجليزية في الكشكول، في السنة الأخيرة وقبل أسابيع من عبارة "مش عارفين تحتوونا" حصلت على أول مبلغ بسيط في حياتي نظير ترجمة ما، طلبها أحد الجيران لملزمة من ملازم دراسته لدبلوما نفسية، وقتها كان عليّ البحث عن الأستاذ وحيد وإنقاده نصف المبلغ على أقل تقدير.
سلام عليك يا أستاذ وحيد أينما وجدتُ الآن، رغم لكنتك المفتعلة التي لا أهتم الآن بكونها حقيقية أم لا ورغم ألاطتك الأمريكاني ورغم إصرارك على ارتداء نظارة شمسية داخل الفصل دون داعٍ ورغم سخريتك المستمرة منا بعبارتك الأمريكية الأثيرة "Oh my God"، سلام عليك وعلى تلك الليلة التي خرجت فيها بالشبشب وبنطلون الترنج رغم كل أفراد الشرطة المنتشرين في محيط العزاء لأحضر الكشكول أبو 200 ورقة ومش سلك وبجلدة سمرا أو بني، سلام على كشكول المفردات، سلام على صفحات الجازيت، وسلام عليك مرة أخرى أينما كنتَ الآن، وسلام على دينٍ لك لا زلتُ أحمله في عنقي.

 التنسيق باستخدام الخط الأميري

هناك تعليق واحد:

  1. جميل. يمكن النضارة الشمس عشان كان خمورجي أو حشاش أو غنده مشكلة مزمنة ف عنيه؟ :)

    ردحذف