الثلاثاء، 21 مايو 2013

عن صلاح جاهين والاحتفاء بـ(الحياة)


عن صلاح جاهين والاحتفاء بـ(الحياة)

أحب أعيش ولو في الغابات
أصحي كما ولدتني أمي و ابات
طائر .. حوان.. حشرة .. بشر ..بس أعيش
محلا الحياة.. حتي في هيئة نبات

بهذه الرباعية يغني جاهين للـ(حياة)، إنه يعشقها ويقدسها حيثما كانت حتى ولو كانت في هيئة نبات يهز فروعه فقط دون أن يتحرك من مكان، يحتفي جاهين بـ (الحياة) لكن أي (حياة) تلك التي يحتفي بها ؟
لنتخيل حياة جاهين تنزاح قيد أنملة عن موضعها وقت كتابة الرباعية، في الستينات وهو الشاعر الغنائي الأشهر المحتفى به، تنتظم حياته في رتابة مطمئنة ودعة وراحة تجلب معها أحداث منطقية وعكارات منطقية كذلك، تخلو حياته من مفاجآت كافكاوية غير سارة، وقت كتابة الرباعية لا يخشى الشاعر المغني من دخول فردين عليه الغرفة وهو بملابس النوم مثل يوسف ك في المحاكمة، لا يخشى انزلاق كلمة عابرة من لا وعيه المرتبك عبر حاجز وعيه الصارم المهندم المنظم الذي يحتفظ له بهيئته الاجتماعية ويحافظ على علاقاته المجتمعية القائمة، لنتخيل الشاعر المغني وقت كتابة الرباعية وهو لا مطمئن، لا يعرف إن كانت ستنشر أم لا، لنتخيله غير محتفى به في سائر البناء الاجتماعي القائم، لنتخيله صوتًا أكثر فرادة ومفارقة عن تلك السهولة العادية حد الابتذال التي يفهمه بها الجميع، لنتخيله وقبل كتابة هذه الرباعية رفضت له مئة رباعية أخرى، سيتوقف القلم (أحب أعيش) ويتساءل عندها أي (عيشة) تلك إن كنت أكتب مئة رباعية لا يفهمها أحد ولن يفهمها أحد، لكن الشاعر المغني لم يعانِ كل ذلك، كان يكتب وهو موقن بالنشر والاحتفاء والأجر في مجلة صباح الخير.
لو كانت (الحياة) هكذا، رتيبة مطمئنة تدعو للدعة والسكينة والراحة فيمكنك الاحتفاء بها، وتخيلها في الغابات والجزر والشجر الوارف ظله الرامي بثمر ويحلو في أيكه السمر، فالرباعية بمدخلها ومنتهاها تهيء جوًا دراميًا يستدعي إلى الذاكرة المشاهد التي رآها المتلقي الستيني في دعة وراحة في سينما صيفية تهب فيها النسائم العليلة غير الملوثة بعوادم السيارات وغاز فريون التكييفات، سيقرأ المتلقي (الغابات) ليستدعي في الذاكرة طرزان وحبيباته الشقراوات، ورقصات هونولولو، الشجرة المقصودة شجرة عملاقة لها فروع وأغضان وثمار، تلاعب القرود أغصانها وتلاعب هي القرود وتعتبرها حيواناتها الأليفة، لكن لو كانت (الحياة) غير (الحياة)، لو كان جاهين لا يتمتع بالدعة المطمئنة والرتابة المنظمة، لو كان مثل السارد الرئيس في كل قصص محمد حافظ رجب يخشى العبور من بولاق إلى إمبابة مرورًا بالزمالك حتى لا يفاجئ بالكمساري المشوه والقزم الأعمى الذي يدخل في أذنه كما كتب في كائنات براد الشاي المغلي، لو كان جاهين وقت كتابة الرباعية مثل عبد الحميد الديب، حائطَا مهدمًا كتب عليه "هنا أيها المزنوق طرطر"، فأي نبات كانت تنتجه خيالاته الشعرية الغنائية، لننس الغابات والشجر الوارف ظله، لنتخيل شجرة وحيدة يتيمة رماها عمال البلدية في انتظار زيارة نائب المحافظ التي لم تأتِ أبدًا، ولنتخيل هذه الشجرة على كورنيش الأسكندرية، لأنها المحافظة التي يحتفى فيها بنائب المحافظ ولا يذكر لها محافظًا، (محلا الحياة في هيئة نبات) وماذا لو كان هذا النبات تلك الشجرة اليتيمة القائمة على كورنيش البحر في نهار تموزي قائظ، كل علاقتها بالماء العذب علاقة انتظار، (محلا الحياة في هيئة نبات) لكن الشجرة اليتيمة لا تعرف طراوة الماء إلا عندما يمر بها عابر سبيل ليلي، سكران خارج من بار الشيخ علي، ليطرطر على جذعها، عندها يقف النبات المتغزل في حياته حائرًا هل يشكر المطرطر الذي رواه أم يشعر بإهانة الطرطرة.
وما المشكلة ؟ من حق صلاح جاهين، الشاعر المغني للنظام الاجتماعي القائم في الستينات الاحتفاء بـ(الحياة)، الحياة كما عاشها في الستينات، في دعة مطمئنة ورتابة منتظمة تخلو من المفاجآت اللاسارة، لكن الرباعية لا تؤخذ الآن كذلك، لا تفهم الآن أنها مجرد احتفاء شاعر مغني مبسوط ب(حياته) التي لا يعاني فيها، ولا يقيم وقت كتابتها في الواحات، ولا يخشى دخول المباحث العامة بيته في أي وقت، ويسمعه زعيم الأمة (جمال عبد الناصر)، فالشاعر الغنائي المحتفى به شاعر القبيلة المغني، لا القبيلة الصغيرة المضحكة في القصص المصورة "آستريكس وأوبليكس"، لكن القبيلة/الدولة، مثل هوميروس وبحره الإيامبي الملحمي، يردد البشر المتحفون بشاعر القبيلة/الدولة جاهين هذه الرباعية وغيرها من الرباعيات كل صباح، بوصفة خلاصة حكمة الأقدار والسنين والأحياء والميتين، لا مجرد تعبير شاعر مغني عن رضائه بعيشته وحياته المطمئنة الخالية من المنغصات اللامنطقية، (الحياة) هنا تفهم بصورة مختلفة، حين يردد الآن المحتفون بشاعر القبيلة/الدولة الغنائي تلك الرباعية يتحدثون عن (الحياة) بالمفهوم البيولوجي الأكثر ابتذالًا، لا بما عناه الشاعر المغني من احتفائه ب(حياته) اللطيفة التي كان يعيشها في الستينات كجزء مهم ومؤثر ورئيس في بنية الثقافة السائدة وقتها، الاحتفاء ب(الحياة) يخرج عن مجرد احتفاء برتابة حياة موظفي الستينات السعيدة، رتابة الموظفين الذين يقبضون ولا يسألون ولا يتساءلون، ليكتسب معنى ميتافيزيقي عن الاحتفاء بأي (حياة) وليدخل في باب التفاؤليات المعتادة اعتياد الرداءة، لتخرج الرباعية من (محلا الحياة)، حياة الشاعر المغني المطمئنة، إلى ما أحلى الحياة بمفهوم جماعات (صناع الحياة) ومريدي التنمية البشرية، المتفائلين دومًا دون أدنى معنى ودون أي فهم.
لو كانت (الحياة) رتيبة مطمئنة منتظمة تتمتع بدعة وراحة وتخلو من مفاجآت لا منطقية كافكاوية ستحلو ولو في صورة نبات، أما لو كانت غير ذلك فسيكون النبات مجرد شجرة قائمة على كورنيش الأسكندرية لا تطول زيارة نائب المحافظ ولا ماء الري، تنتظر فقط عابر سبيل شريد سكران خارج من بار الشيخ علي ليرويها بطرطرته. 

هناك تعليقان (2):

  1. شوف مش أنا بأموت في صلاح جاهين وكدا.. بس إنتَ صح نيك وعندك حق.. شكرًا يا جدع.

    ردحذف
  2. حتي لو كان الحال سئ المستقبل سعيد أنا أري الحق و الصدق الخير العداله كل هذا الأشياء الجميله لأجيال غير , قال كدا قدام شباك و صوت العربيات و شوبان و روائح عوادم السيارات حوله ...
    عارف إن الحاضر مؤلم و الستقبل مش مبشر بس ليه نكون كده ليه حالنا مزري ليه كمان عارفين إن المستقبل سئ ليه ميكونش في أمل لينا حتي ففقشه فالمستقبل فدين فجنه غريبه عنا فدنيا أفلاطون و ابن رشد أو حتي دنية الماركيز ساد ليه إحنا حالنا سئ ...

    ردحذف