الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

مرثية لعابر سبيل

مرثية لعابر سبيل



المرة الأولى التي رأيتُه فيها وافقتْ يوم عيد ميلادي الثلاثين، وذكرى محمد محمود الأولى، (لم يكن السيسي قد عامَ بعدُ على سطح بحر الثَريد كالزَبَد)، التاسع عشر من نوفمبر؛ في ظهيرة يوم خريفي دافئ، جلسَ في الطاولة المجاورة لي في مقهى الحرية، جلسنا محاصرين بين عمودين فيهما مرآتان صدئتان، كان يقوم ويقعد كثيرًا كثيرًا فظننته يرسم نفسه، ربما هو شيء ما في هيئته أو أوراق الرسم التي كان يحملها، حدست إنه فنان ولا بد، من رسمه لنفسه الذي تخيلته ساعتها ومن قيامه وقعوده، كتبت نصًا قصيرًا يشابه الهايكو
عن يساري يرسمُ نفسَهُ
عن يمينِه أكتبَ نفسي
وعن يميني ترسمنا المرآة 
ما أجمل أن يهديك عابرُ سبيلِ نصًا، ما أجمل أن يمنحك درويشٌ تائهٌ لحظةَ كشفٍ لم تكن لتحصل عليها من دونه، يتحدث حكماء الزِن عن لحظة الاستنارة الناتجة عن إدراك حل الكُوَان بحدسك، كان مرآه مشابه للحظة الاستنارة تلك، وعلى مدار الشهر التالي، شهر اشتباكات ذكرى محمد محمود وسيمون بوليڨار والاتحادية، كنت أصدفه كثيرًا وأسمعُ، دون استماعٍ، أحاديثه العابرة مع جرسونات المقاهي واعتذاره عن عدم دفعه الفوري "حق المشاريب".
مضى الشتاء ولم أره، وفي نوبة أرقٍ ربيعية مصحوبة بهوسٍ طفيف قررت إن ذاتي قد تضخمت وصارت تحتل حيز عالمي الخاص وعليّ كسرها، قررت إهداء كتب لأصدقاء افتراضيين، أعرفهم ولا أعرفهم، لأتقاسم معهم ذاتي المتضخمة، فالذات تتضخم حتى تأكل روح الإنسان، كان الكتاب الأول (الفردوس المفقود)، يومها جلسنا سويًا، عمر، الذي صار صديقًا بعد ذلك الإهداء وأنا، نحكي على أنغام أغدًا ألقاك، وأخبرني عمر اسم عابر السبيل وحكايته، بهنسي، فنان تشكيلي، يعاني من آثار آلام الروح مثلنا، ربما قال لي عمر، لست أذكر الآن، أن أبناء بهنسي ماتوا وماتت زوجته، ربما حدثني عمر، لكني لا أذكر.
في اليوم التالي وفي غفوة وجيزة حلمتُ بحكيم شرقي، لم أر له وجهًا لكنه أملي علي حكمة "لتستعد كارماتك عليك أن تكسر لوحة دعائك"، يومها حملت معي كتابًا قديمًا لأهديه لبهنسي، قلت لنفسي إن ظهر بهنسي فالكتاب كتابه، وظهر أمامي لكني خجلتُ، فعلى عكس قناعي الشخصي الذي أرتديه لأصد عني تحرشات الفضوليين المقتحمين عالمي الخاص، أنا شخص خجول ومنطوي لا أستطيعُ اقتحامَ الآخرين أو بدءَ حديثٍ ما، لم أهدِ الكتاب لأحد حتى الآن، ولم أهدِه لبهنسي رغم أني، ليلتها، تخيلتُ عينيه تبتسم لعينيّ.
منذ ذلك الحين لم أرَه، حصلت على كارماتي في اليوم التالي، حب سريع، غامر رغم سرعته وفترته القصيرة، من فتاة لا تدري إلى الآن إنها كانت عاقبتي وأُمنيتي، مر الربيعُ والصيفُ والخريفُ، ومثل كل أنباء الغرباء صادفني خبر مَوْت بهنسي، شريدًا درويشًا وحيدًا في موجة البرد القارص، مثل الخواجة لامبو الحزين مات بهنسي، غالبتُ دمعتي لعابرِ السبيلِ الذي أهداني لحظتيّ كشف واستنارة، غالبتُ دمعتي وأنا لا أبكي على الغرباء، بعد أن نشّف الأقربون دمعي، غالبتُ دمعتي فغَلَبَتني وغَلَّبَتني لأني أحببت هذا الدرويش الغريب.
ربما يأتيني الحكيم الشرقي الليلة في غفوة أو في صحوة ليقول لي "لا تحرموا عابري السبيل هداياكم فعما قريب يأخذهم الموت". 

هناك تعليقان (2):

  1. يا الله ...
    كنت افتكرت إني بطلت أحس أو أتأثر
    رحم الله بهنسي و كل بهنسي
    و شكرا جزيلا لك ..

    ردحذف