الاثنين، 17 فبراير 2014

عشر أطروحات عن طبيعة الميتاسرد جورج فراگوبولوس

عشر أطروحات عن طبيعة الميتاسرد (وعرض مُضمن –بين حاصرتين– لرواية سلبادور بلاسثنثيا[1] "ناس من ورق")
جورج فراگوبولوس[2]
ترجمة : ياسر عبد الله

(تمت الترجمة في صيف 2009)




اقتباس من بورخس كملخص بسيط "من المقبول أن تظهر تلك الملاحظات في وقت ما، وربما في أوقات عدة، إن النقاش حول جدتها يهمني أقل ما تهمني حقيقتها المحتملة ".
( لنبدأ بـ ... تورية ).

( I )

الميتاسرد هو كذبة مزدوجة، فكثير من قوة جماليات الرواية يكمن في طبيعتها المتناقضة، تقدم الرواية نفسها كخيال ملئ بالحيوية يقوده صدق محتمل مقنع، وتأخذ الرواية شكلها حقًا في رسم الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال؛ الميتاسرد ببساطة هو الامتداد الطبيعي لهدف الرواية الأساسي، حكي خيالي يمكنه أن يكون مقنعًا لدرجة أن يخدعنا ونقبله كحقيقة.

( " لقد خلقت هي بعد زمن الأضلاع والحمأ المسنون، بمرسوم بابوي لن يخلق بشر بعد الآن من التراب أو من نخاع العظام".
من بين كل الأفكار السارة التي يطرحها سلبادور بلاسثنثيا في روايته  ناس من ورق The People of Paper ( 2005 )، لا أجد تورية أكثر إمتاعًا من تلك التورية الموحية في الجملة الثانية، تعرض لنا رواية بلاسثنثيا الميتاسردية عالمًا تحول عن قوة المراسيم البابوية إلى قوة الورق[3] التغييرية، عالم لم يعد مكونًا بعد الآن من إله يلهو، بل مكون من اللغة ذاتها، فهو عالم من صنعنا، إننا نحيا الآن في زمن المراسيم الورقية[4]).

) II )

نحن نقع في حب الجزء الحكائي المكون للكذبة قبل أن نُعنى بإثبات حقيقة هذا الجزء الحكائي، وذلك ملمح أساسي لكل الميتاسرد.
مالرو : " تحكي قصة قديمة أن سيمابو [5]Cimabue  تاه إعجابًا حين رأى الولد الراعي جيوتو Giotto  [6]، لكن طبقًا للروايات الحقيقية، لم يوح أبدًا الخروف لجيوتو بحب الرسم، بل كان ذلك عند رؤيته للمرة الأولى لوحات فنان كسيمابو".
إن الميتافيزيقيين، سواء اتخذوا سمت الفنانين أو اللاهوتيين، دائمًا ما يعيرون انتباهًا  لتلك الأشياء التي يعرفون كذبها أكثر مما يعيرون للعالم الذي تمثله هذه القصص.

( إن " هي " المشار إليها في السطر الأول من الرواية هي إمرأة من ورق، حواء من زمننا، ميرسد دي بابل Merced de Papel، وهي من إبداع اول جراح أوريگامي في العالم، أنتونيو، وهو كفنانين كثيرين مصاب بحسرة الفقدان – في حالته ، موت قطته الحبيبة – تحول أنتونيو إلى الورق وقدراته المانحة للحياة ليداوي جرح قلبه، فيكتور فرانكشتين من زمننا، مكونًا " ثلاثة عشر عضوًا مثاليًا من الورق والأوعية الدموية والشرايين من مناديل الورق " ليبعث قطته الحبيبة من موتها.
ميرسد دي بابل، ابتكار آخر من ابتكارات أنتونيو، هي شخصية ثانوية في رواية بلاسثنثيا لكنها تعبر عن حقيقتها.
ميرسد دي بابل – التي عمدت باسمها ذلك من قبل ميرسد أخرى، فتاة صغيرة تخلت عنها أمها التي تحمل نفس اسمها (الميرسيدات والفقدان الذي يمثلن مضاعفاته في السرد، هو تقدير للنموذج المألوف للحضور والغياب عند جارثيا ماركيث)– هي تصور أتى للحياة لأنها هي الحياة، تقول هي ( ميرسد دي بابل ) : " بعد أن تحسست ذراعيّ، قالت (ميرسد الصغيرة) إنني كنت دافئة ولم أكن مجرد لفة رطبة من جريدة الصنداي كما كانت قد توقعت".
إنها ليست مصنوعة من الورق –ببساطة– لكن من الحياة التي يمثلها هذا الورق، ولسانها المجروح –قطعة الورق– الذي سيلوحه لاحقًا حبيب ميرسد دي بابل بعد محاولة كارثية لممارسة الجنس الفموي هو حقيقة بصورة مفزعة أيضًا.
" شق رامون باريتو Ramon Barreto لسانه بالطول وهو يحاول تذوق داخل ميرسد دي بابل، وترك بقعة موحلة من الأحمر المسود بين أفخاذها"، ويصعب إيجاد إستعارة أفضل عن اللغة التي تجرح العاشق والمعشوق معًا.)

( III )
لا تخدعنا الحقيقة أبدًا، تخدعنا فقط الأكاذيب التي نسجناها حول الحقيقة، تلك أيضًا إحدى حقائق الميتاسرد.

( يخلق بلاسثنثيا ما يمكن وصفه بعالم مابعد مسيحي، " ناس من ورق " هي أرض يباب مفروشة بالأيقونات والتيمات المسيحية، حتى ولو كانت تلك التيمات أخضعت لمعتقدات شكل آخر من التدين : السرد الميتاسردي.
يقدم بلاسثنثيا لنا عالم المؤلف كالإله، مصارعون مهزومون موصوفون عبر سجلات القديسين، أشخاص مصدومون بالحزن متورطون في جلد الذات لينسوا إحبائهم الضائعين، خاضعون للآلام البدنية ليهربوا من الآلام العاطفية، رهبان ساكبون للدمع تخلوا عن أديرتهم التي لم تعد تجدي نفعًا، ببساطة تحول الرب وطرقه تحولاً جذريًا، ولم يعد مألوفًا أو حتى ضروريًا، وذلك هو الحد الأقصى من موضوعة فرويد عن الخارق للطبيعة، تفسخت دعائم البيت وبدا غريبًا، وغدت الحقيقة ذاتها خيالاً مألوفًا وأصبح بإمكاننا أن نلمح خلف القماش المزركش البديع اليد التي غزلته على النول.)

( IV )

يعامل الميتاسرد اللغة كالشيء الأكثر قداسة، لكن تلك الأفكار تظل على تناقض مع أنه لا شيء مقدسًا حقًا بقى سوى الحكي، فالحكي Fiction هو آخر فعل لغوي مقدس نملكه، إن الميتاسرد يسعى لصنع كتبًا مقدسةً لعصر لا يريدها ولا يحتاج نصوصًا مثلها.

( بالنسبة لخلق أنتونيو لميرسد، من المهم ان نأخذ في الإعتبار الأوراق التي استخدمت لخلق اعضاءها وعظامها وكيانها.
" فسخ أنتونيو كعوب الكتب وقطع أوصال أوستن وثربانتس وأخذ أوراقًا من اللاويين والقضاة، مزج كله بصفحات من كتاب الضوء المتلألئ، وكانت هي الأولى التي صنعت على هذه الشاكلة : رجلاها من كروت المعايدة، وزائدتها الدودية من السيلوفان، وثدياها ورقيان، خلقت من قصاصات الورق لا من ضلع رجل."
إن الأدب في طبيعته الحقيقية، هو ما جعل ميرسد ممكنة، وهو الذي يجعلنا ممكنين أيضًا).

( V  )

الميتاسرد هو ربما ما كان يعنيه نيتشه حين قال أنه يخشي ان نظل مؤمنين بالرب لاننا لا زلنا نملك قواعد النحو[7].
مات الرب، لكن فقط من ناحية واحدة، يمكننا القول، بأن الرب لم يعد قيل وقال مشترك يهمس من أذن لأخرى في دوائر إجتماعية، الرب الآن ثرثار مثالي، هو العبث الذي نسمعه في أكثر اللحظات خصوصية حين تواجهنا أشياء كالذات أو العالم في عالمنا ما بعد المسيحي، عالمنا الميتاسردي، صار الرب لغة، أو بعبارة أفضل، صار هو المنطق الخاص أكثر مماهو  القواعد النحوية المشتركة، قواعد لازالت تشكل العالم ولكن عالم مستوى خاص مجزأ.

( إن موقع بلاسثنثيا في الرواية يستحق الانتباه – إن الاسم الذي أعطاه لشخصيته القناع الشبيهة بالإله هو اسم ملزم بوضوح : ساتورن Saturn  (زُحل) وهو صاحب طابع عابس (زُحلي) saturnine، وتحكي الرواية كذلك عن علاقة المؤلف المنتهية مع امرأة تدعي ليز، امرأة  تعترض، في مجرى الأحداث، على رؤيته أحادية الجانب للقصة.
"كنت أنوي البقاء صامتة، تاركة إياك تكتب قصتك، لأدعك تكوّن تاريخك الشخصي كما ترغب، لكن هذه رواية، ولم يعد ذلك الأمر بيني وبينك فقط".
إن ليز تحتج ليس فقط بخصوص ما يخصها في الرواية ولكن بخصوص كل القصص التي يقدمها بلاسثنثيا في سرده.
ومن أكثر الشخصيات التي تعلق بالذاكرة في الرواية، شخصية هامشية تدعى سمَيلي Smiley ، يحاول الإتصال بصانعه ليسأله عن دوره الهامشي في السرد الذي نقرأه، وسريعًا ما يصاب سميلي بالإحباط حين يعجز بلاسثنثيا عن إدراكه. لقد خذل سميلي إلههُ الشخصي، إن ساتورن، كما في لوحات جويا، هو عملاق يبيد أطفاله وأناسه الذين خلقهم من ورق).

( VI )

تقول جوان ديديون إننا نروي لأنفسنا القصص كي نحيا، ويضيف الميتاسرد تعديلاً طفيفًا لهذه العبارة، إننا نروي لأنفسنا الأكاذيب كي نحيا، الفارق طفيف لكنه ضروري، حسب اعتقادي، إننا نلتقط الحكي وراء الكذبة؛ يمكننا أن نعتبر مثل هذه الحقيقة مبالغ فيها، لكنها لا زالت تنتمي إلينا، ونحن ممتنون لوجودها.

("ذلك الكتاب مجرد هراء، لا أحد يفكر بمثل هذه الطريقة " قالت هي، وأزدادت هالتها إشعاعًا).

( VII )

لا يفرض الميتاسرد أي صيغة متعجرفة عن استثنائية البشر، إن العالم من لحم ودم لابسبب نزوله من السماوات ولكن بسبب وجوده داخلنا، فاللغة تحوز مادية وهيولية لا تؤخذ عادة في الإعتبار.

( حين التقى سميلي ببلاسثنثيا للمرة الأولى، أُحبط بكل الطرق، ليس فقط بسبب عدم ادراك خالقه له كأحد مخلوقاته، ولكن لأن وجود بلاسثنثيا الهيولي يفتقر لأي مظهر ألوهي.
"لكنني عندما جئت إلى ساتورن لم يكن في وعيه أبدًا، وحتى لم يتوقع قدومي، ولم يهتم أيضًا؛ لقد تخلى عن القصة وتخلى عن قدرته كسارد. وجدته نائمًا، مستلقيًا وعاريًا، كان راقدًا على بطنه وتحته أكياس الوسائد، أما الوسائد فقد كانت مرمية أمام الحائط".
صانعونا معابون وعرضة لكربات الحب كما إننا كلنا معرضون، وما هو أسوأ، إنهم من لحم ودم، ملموسون مثلنا).

( VIII )

توني موريسون : "نموت، ربما كان ذلك هو معنى الحياة، لكننا نملك اللغة وربما كان ذلك هو مقياس حياتنا".
هناك حقيقتان بشريتان فقط نعرفهما حق المعرفة، الموت والحياة، وعندما تواجهنا أي هاوية اخرى لأي طريق آخر، فنحن نملك اللغة.

( "وإلى ليز، التي علمتني أننا جميعًا من ورق").

( IX )

نعيش لحظة تاريخية خرجت مباشرة من مقال لبورخيس "لماذا يزعجنا أن يكون دون كيخوته من قراء الكيخوته وهاملت من مشاهدي من مشاهدي هاملت ؟ إعتقد إني اكتشفت السبب: توحي هذه الانقلابات في الأوضاع بإنه إذا كان بوسع شخصيات عمل خيالي أن تصير قراءً او مشاهدين فسيكون بوسعنا، نحن قراءها أو مشاهديها أن نصير وهميين"[8].
وأود ان أعدل ذلك قليلاً، يعمل الميتاسرد من مركز يقين يُعَد عدم يقيننا مكون أساسي له.
إن كوننا نحن القراء والمشاهدين، وهميين، لا يجعلنا ببساطة نقبل إحتمالية كهذه، ولأطروحات كهذه هناك شك طفيف حول يقينية الميتاسرد.

( سميلي وكذلك ميرسد دي بابل، يمثل حقيقة الأمر حتى ولو كانت تلك الحقيقة على الهامش؛ الشخصيات الثانوية وحدها هي التي تعبر عما يدور سرد بلاسثنثيا بالفعل، وعندما تثور عصابة جامعي زهور المونتي، المونتي فلورس El Monte Flores، ال EMF، التي يقودها والد ميرسد الصغيرة، فيديريكو دي لا في Federico de la Fe، ( في Fe، هل هي تهتهة Feo ؟)، ضد ساتورن/بلاسثنثيا كي يحوذوا تحكمهم الكامل في قصصهم وحياتهم، يحاول سميلي تحقيق السلام بدلاً من الحرب، مع صانعه .
إن سميلي هو الفرد، وربما هو الفرد الوحيد، المدرك للطبيعة الخيالية للأمر، ولا يهتم بغير ذلك، يريد سميلي، مثلما نريد جميعًا، أن يرى كيف يتشكل الحكي، يوجد المشاهدون في الرواية في صورة ميرسد دي بابل وسميلي، لمشابهتهما لنا خلقًا وصورة).

( X )

ليس هناك أي قلق في الميتاسرد فيما يخص طبيعته الخيالية أبدًا، ليعرف كل منا أن الحكي هو حقيقة محررة، وربما هو الحقيقة الأخيرة.
كل القلق يكمن في أن الميتاسرد يناقش بنية السرد ويناقش ما سوف يحتويه ذلك السرد، لذا لاينتهي الميتاسرد أبدًا بجملة أخيرة لكنه يمضي بعد ذلك كما تمضي حياتنا، كل ذلك هناك وببساطة نستمع :
("لن يكون هناك توابع للحزن").

تم التنسيق باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي





[1] سلبادور بلاسثنثيا Salvador Plascencia ( كاتب أمريكي ولد عام 1976 في وادي الحجارة بالمكسيك ، والرواية هي أول أعماله).
[2] جورج فراگوبولوس (يقيم في نيويورك، ويعد حاليًا رسالة الدكتوراة عن الشعرية الامريكية الحديثة).
[3] بالإسبانية papel     في الأصل، وفي الجملة جناس بين papal ( بابوي ) و papel  ( ورق بالاسبانية ).
[4] بالإسبانية papel في الأصل.
[5] سيمابو Cimabue: سيني دي بيبو (جيوفاني) سيمابو عاش مابين 1240 م وعام 1302 م، يعرف كذلك باسم بنشيفاني دي بيبو (بالإيطالية الحديثة بينفيتونو دي جيوسيبي) رسام إيطالي وفنان موزاييك فلورنسي.
[6] جيوتو (دي بوندوني) Giotto di bondone : رسام فلورنسي عاش مابين 1276 م وعام 1337 م.
[7] بالألمانية: “Ich fürchte, wir warden Gott nicht los, weil wir noch an die Grammatik glauben.”، والتي يمكن ترجمتها إلى "العقل في اللغة، آه ! يالها من عجوز خادعة،"أخشى ألاّ نستطيع أن نتخلص من إيماننا بالرب لأننا لا زلنا نؤمن بقواعد النحو " نيتشه، أفول الاصنام Götzendämmerung (العبارة المائلة هي ترجمة النص الألماني، أما ما ذكر قبلها فلم تذكر بالألمانية – المترجم .
[8] " سحر القصة داخل القصة في دون كيخوته "، مختارات الميتافيزيقا والفانتازيا، ترجمة خليل كلفت (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2008) صـ 132.

الأحد، 16 فبراير 2014

كُس أم الكُس أم ولانهاية اللانهايات

كُس أم الكُس أم ولانهاية اللانهايات


يدين بورخس لعلبة بسكويت صفيح بسؤاله الأول عن اللانهاية، على أحد جوانب العلبة كان هناك مشهد ياباني تقليدي، وفي ركن من أركان نفس المشهد يظهر المشهد مرة أخرى، وفي ركن من أركان المشهد الداخلي يظهر المشهد وكهذا دواليك، لا شيء يحد التكرار ومن ثم يكون التقسيم المتوالد لانهائي.

مثل بورخس أدين لتجربة طفولية بولعي باللانهاية ، لكن لا علبة بسكويت أو شيكولاتة أو عرائس روسية متداخلة كانت تجربتي، أدين للمرآة ودكان الحلاق، في طفولتي، كطفل وحيد، كنت أمسك المرآة وأتخيل طفلًا آخر عبر المرآة، وفي دكان الحلاق يجلس الزبون بين مرآتين متقابلتين، وهكذا يتم التضاعف المتوالد إلى ما لانهاية.

في مراهقتي قرأت عن معضلة زينون الإيلي، المعروفة باسم أخيل والسلحفاة، التي يمكن صياغتها بصورة مبسطة إن أسرع فارس في أثينا، أخيل، لن يمكنه اللحاق بسلحفاة، فلو كان أخيل يجري أسرع عشر مرات من السلحفاة، وسبقته السلحفاة بقدر مسافة فستقطع السلحفاة عشر المسافة قبل أن يلحق بها أخيل، ولو قطع أخيل العُشر ستقطع السلحفاة عُشر العُشر، وهكذا إلى ما لانهاية، كانت معضلة زينون تمرينًا فلسفيًا مُمكنًا قبل افتراض ديمقريطس إن هناك كميات لا يمكن تقسيمها، سُميت بالذرات فيما بعد، وقبل أن يتم القمع الأخير لمثل تلك المعضلة الزينونية السُفسطائية على يد الفيلسوف الألماني ليبنتس باكتشاف علم التفاضل والتكامل وافتراض إن القيم المتناهية في الصغر لا بُد وأن تؤول إلى العدم.

يتعامل علم التفاضل والتكامل مع مشكلة اللانهاية من جانبين، جانب التقسيم الأبدي، وجانب التضاعف الأبدي، بعبارة أخرى يتعامل مع علبة البسكويت التي تقسم نفسها داخل نفسها ومع مرآتي الحلاق، جنبًا إلى جنب.

مثل علم التفاضل يلخص القول المتداول "كس أم الكس أم" كل الأشياء ويتعامل مع كل الأشياء، إنه يسب كافة الأشياء، لا تلك المعروفة بالضرورة وحدها، بل يسب الجوهر المكون للأشياء ذاتها، كس أم الكس أم  يسب أشياء الأشياء، الأشياء المتناهية في الصغر وتلك المتناهية في الكبر، والحاوية للكون كله، بافتراض بسيط إن الكس أم لا بد وأن يكون له كس أم، وهكذا دواليك.

قبل أن يتم اكتشاف اللانهاية تم التعبير عنها بأكبر رقم ممكن أن يصل له عد الإنسان، كالألف عند العرب، أو التعبير عن اللانهاية بذكر الكميات متناهية العدد كرمل البحر أو نجوم السماء، أو في التقليد الشفوي الحديث ذكر الأعضاء التناسلية السرية، الكُس جنبًا إلى جنب مع الزُبر، للتعبير عن الكميات التي يعجز المرء عن إحصائها، مثل الكُسمئة والكُس ألف والزُبرمئة والزُبر ألف، وعلى الرغم أن الزُبر يلعب دور الإشارة إلى الكميات الضخمة إلا إنه لا يعد باللانهائية كما الكس، فالزُبر له مبتدء وخبر، أول وآخر، بداية ونهاية، إنه يمتد مثل الكوب المخروطي لكنه امتداد محدود مهما استطال، أما الكس، بثناياه المطوية إلى الداخل مثل صفحات مجلد الأعمال البشرية كلها، وربما كان الكُس التجلي الأم لمعضلة اللانهاية عند الإنسان، لقد اكتشفه الإنسان مبكرًا واعتقد إن المرأة وحدها قادرة على التناسل قبل أن يكتشف دور الإخصاب، وعَبَد القوى الخالقة لدى المرأة نتيجة لهذا الاكتشاف، وذا الكس، نظريًا وتشريحيًا، له حد أو جدار، لكنه أثناء لذة النيك لا يشعر الإنسان بهذا الحد، فهو يغوص ويغوص دون أن يشعر، لقد وقف الإنسان الأولي أمام ذروات المرأة المتكررة موقف الحائر، فاختلاف آلية الأورگازمات لدى الذكر والأنثى يثير الخيال المتعلق بدوامة اللانهاية، وأتى فعل الولادة ليرسخ الاعتقاد  إن هذا الكس منتجًا لغيره ونافذًا على العالم الآخر المكون لروح الأرواح، له بداية لكننا لا نعرف نهايته، نافذًا إلى جوف الجسد، ويمكن الدخول، في المسبات المتداولة، من الكُس والخروج من الفم (تشريحيًا تسمح فتحة الشرج بذلك لكن تلك الحقيقة التشريحية لا تحدث في الخيال الشعبي) فالحمل يحدث في البطن، والمرأة تحوي الجنين داخل الجسد كله في التخيل الأولي قبل اكتشاف الرحم، وربما كان هذا التخيل الأولي أول تكريم للكس، وتكريمًا للكس الوالد لا غيره، من هنا صارت الكس أم سبابًا، فالمكرم لا يُهان ولا يجوز ذكره، إنه ينتمى لذلك العالم الذي لا نعرف عنه شيئًا لكن تصلنا تجلياته.

تتكون المسبة الشائعة من نسبة كس أم إلى مُعرف ما، نحو كس أم فلان أو كس أم كدا أما الكس أم على إطلاق التعريف، فهو مثل أم العالم أو وجود الوجود، مُعّرَف لكنه غير مَعروف، يعد بالمجهول وينبئ عنه، وفكرة الكس أم تعني إن لهذا الكس مبتدئًا دون خبر، كما يفترض إعراب لغة الشتيمة نفسها، يمكن الغوص داخله وتقسيمه إلى ما لانهاية، فلا بد للكس أم من كس أم، ولا بد للكس أم المعرض للجذر الثنائي من كس أم آخر وهكذا دواليك، لكن ماذا عن التضاعف؟! يعد الكس أم بطبيعته المولدة بهذا التضاعف، فلا بد لكل كس أم من أن يلد كس أم آخر، وهكذا تتسع دائرة الكس أم للخارج كما تنطوي للداخل، إنها دائرة كلغز الكون منذ الانفجار العظيم، هل يتسع الكون ودائرته المماثلة لدائرة الكس أم إلى ما لانهاية متناهية في الكبر، أم ينطوي الكون ودائرته المماثلة لدائرة الكس أم إلى ما لانهاية أخرى متناهية في الصغر.


ينتمي نسب الكس أم إلى نفسه إلى تقليد لغوي قديم، ففي اللغات التي تخلو من أفعل التفضيل، كان يتم التفضيل بنسبة الشيء إلى الشيء مثل ملك الملوك ونشيد الأناشيد، فالكس أم المنسوب إلى الكس أم، هو كس الأكساس وسؤال الأسئلة، أو هو المُولد لجميع المولدات، هكذا تسطع العبارة فجأة فتقتل أي حوار ممكن، كس أم الكس أم، عبارة تُدخل المرء في تيه اللانهايات، في دوامة التأمل الطفولي لعلبة البسكويت التي تكرر نفسها، ومرآتي الحلاق اللتين لا يكفان عن التضاعف، يتأمل المرء العبارة بلمح البصر فيشعر بتلك الرهبة، رهبة التكرار اللانهائي، رهبة المتناهي في الكبر وغموض المتناهي في الصغر، لذلك تصبح كس أم الكس أم، ولأنها تطعن في لانهاية اللانهايات، شتيمة الشتائم ومسبة المسبات.

L'Illusion Comique خورخي لويس بورخس

L'Illusion Comique[1]
خورخي لويس بورخس
ترجمة: ياسر عبد الله

خلال سنوات الحمق والعار، تم تطبيق أساليب الدعايات التجارية وآداب البوابين[2] لحكم الجمهورية، هكذا كان هناك تاريخان، الأول ذو طبيعة إجرامية، مُكون من السجون، التعذيب، الدعارة، السرقة، القتل والحرق العَمد؛ الآخر له دور مسرحي، مُكون من الحكايات والقصص الخرافية المُعدة لاستهلاك المُغفلين، وغرض هذا المقال، دراسة أولية لذاك التاريخ الثاني، الذي ربما لا يقل إثارة للاشمئزاز عن الأول[3].
كرهت الديكتاتورية (ادّعت كراهية) الرأسمالية، لكنها، كما في روسيا، نسخت أساليبها، وأملت الأسماء والشعارات على الشعب بنفس المثابرة التي تفرض بها الشركات أمواس الحلاقة، السجائر أو الغسالات عليهم. هذه المثابرة، كما لا يجهل أحد، أدت إلى نتائج عكسية؛ فالإفراط في دُمى الديكتاتور جعل الكثيرون يشمئزون من الديكتاتور، لقد عبرنا من عالم الأفراد إلى العالم العاطفي للرموز؛ لم يكن الصدام بين أحزاب أو منافسين للديكتاتور، لكن بالأحرى كان بين أحزاب ومنافسين لدُمية أو لاسم ... ما هو أكثر  طرافة كان إدارة السياسة تبعًا لقواعد الدراما أو الميلودراما.
في يوم 17 من أكتوبر (تشرين الأول)  1945[4] تم الادعاء إن كولونيل تم إلقاء القبض عليه وخطفه وأن الشعب أنقذه، لم يزعج أحد نفسه بالإعلان عن الخاطفين، أو عن كيفية التعرف على مكانه؛ ولم يكن هناك أية اتهامات قانونية موجهة ضد الاطراف المذنبة المحتملة؛ كذلك لم يتم الكشف عن أسماء المجرمين أو حتى تخمينها.
في غضون عشر سنوات، صار التمثيل أسوأ بكثير، مع الازدراء المتزايد لشكوك الواقعية المبتذلة. في صباح 31 من اغسطس (آب)[5] ادعى الكولونيل، صار ديكتاتور الآن، الاستقالة من الرئاسة؛ ولم يتم إعلان الاستقالة أمام الكونجرس، لكن أمام المكاتب التنفيذية لإتحادات عمالية، ليكون المشهد شعبويًا بجدارة.
لا أحد، حتى قواعد الإتحادات العمالية نفسها، يجهل إن غرض هذه المناورة كان لحث الشعب على ترجيه سحب استقالته، في حالة ما كان هناك أدنى شك في ذلك، قامت عصابات من أنصار الحزب، بمعونة الشرطة، بإغراق المدينة بصور شخصية للديكتاتور وامرأته. بلا حماس، تجمعت الحشود في ساحة مايو[6]، حيث أذاعت محطة الإذاعة الرسمية خطبًا حماسية لكي لا يغادر أحد وقطع موسيقية لتلطيف الضجر، وقبل حلول الليل، أطل الديكتاتور من شرفة البيت الوردي[7].
كان، كما هو متوقع، محتفى به، لكنه نسى أن يتخل عن تخليه، أو ربما لم يفعل ذلك لأن الجميع عرفوا أنه سيفعل ذلك، وسيكون سمجًا لو أصر على تنحيه، لكنه طالب، رغم ذلك، بمذبحة دون تمييز لكل خصومه، واحتفت الحشود بذلك.
لكن لم يحدث شيء في تلك الليلة، عرف الجميع (ربما، ما عدا، الخطيب) أو أحسوا كما لو كان مشهدًا مسرحيًا، حدث نفس الشيء، بدرجة أقل، مع حرق العلم[8]، لقد قيل إن ذلك كان من عمل الكاثوليكيين، تم تصوير العلم المُهان وعرضه، وكأن سارية العلم نفسها لم تكن كافية للعرض، فاختاروا أقل الثقوب تواضعًا في منتصف الرمز، ومن غير المجدي تعديد الأمثلة؛ يمكن للمرء فقط أن يدين إزداوجية قصص النظام السابق الخيالية، التي ما كان لها أن تُصدق وصُدقت.
سيُقال أن افتقار العامة للتعقيد كافيًا لشرح التناقض؛ لكني أعتقد إن التفسير أكثر عمقًا، تحدث كولِريج عن كون "التعطيل الطوعي للإنكار" المكون الأساسي للشِعرية، وقال صامويل جونسون، دفاعًا عن شكسبير، إن المشاهد لتراجيديا لا يصدق إنهم في الأسكندرية في الفصل الأول وفي روما في الفصل الثاني، لكنه يخضع للذة القص الخيالي، بصورة مشابهة، فإن أكاذيب الديكتاتورية لا تُصدق ولا تُكذب، بل تنتمي لخطة وسيطة، غرضها إخفاء أو تبرير الوقائع الحقيرة والفظيعة، إنها تنتمي للمثير للشفقة والحساسية الخرقاء، من المُبهج، إنه لوضوح وأمن الأرجنتينيين، فهم النظام الحالي إن مهمة الحكومة ليست إثارة الشفقة.

-----------------
تم التنسيق باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي.

Jorge Luis Borges, SELECTED NON-FICTIONS, EDITED BY Eliot Weinberger, TRANSLATED BY Esther Allen, Suzanne Jill Levine, and Eliot Weinberger, Viking Penguin, 1999, p 409-410.



[1] "الإيهام المسرحي"، عنوان مسرحية لبيير كورني (1606-1684)، بالفرنسية في الأصل الإسباني.
[2] la litérature pour concierges، بالفرنسية في الأصل.
[3] على الرغم إن المقال مخصص لإبداء استنكار بورخس لأساليب نظام خوان پيرون المبتذلة من وجهة نظره، فإنه لا يذكر پيرون بالاسم ويكتفي بالإشارة إليه مرة ككولونيل ومرة كديكتاتور.
[4] يوم الولاء كما يُعرف في الأرجنتين، ويُوافق ذكرى خروج مظاهرة عمالية ضخمة إلى ساحة مايو للمُطالبة بالإفراج عن الكولونيل خوان پيرون (1895-1974)، الذي كان سجينًا في جزيرة مارتين گارسيا، ويُعد ذلك اليوم بمثابة تأسيسًا للپيرونية.
[5] في 31 أغسطس (آب) 1955، عرض خوان پيرون استقالته من منصبه للحفاظ على السلم الداخلي في الأرجنتين، وأدى ذلك العرض إلى خروج مظاهرات جماهيرية تطالبه بعدم التنحي، ولم يمنع ذلك من الإطاحة به في إنقلاب عسكري، مدعومًا بمعارضة مدنية، سُمي بثورة التحرير في 16 سبتمبر (أيلول) 1955.
[6] Plaza de mayo، من أهم ميادين بيونس آيرس، ولكونه المسرح الرئيس لثورة 25 مايو (آيار) 1810 التي أدت للاستقلال، يُعد المشهد الرئيس لكثير من الفعاليات السياسية في الأرجنتين.
[7] Casa rosada، البيت الوردي مقر السلطة التنفيذية ومكتب الرئيس الأرجنيتيني، ويقع في شرق ساحة مايو.
[8] في مايو (آيار) 1955، بعد مُظاهرة لأنصار الكنيسة الكاثوليكية أنزلت العلم الأرجنتيني من ساريته في ساحة مايو واستبدلته بالعلم البابوي، ظهر وزير الداخلية والزعيم العمالي آنخل برلونگي في حشد من أنصار الپيرونية، ووقف في شُرفة البيت الوردي مُلوحًا ببقايا علم محترق ادّعى أن أنصار الكنيسة الكاثوليكية قاموا بإحراقه. ( “Don’t Cry For Me, Argentina” — The Tumultuous Times of Juan and Evita Peron)

السبت، 8 فبراير 2014

عن فريد الأطرش واستعراضات البلدان

عن فريد الأطرش واستعراضات البلدان

في أفلامه السينمائية ما قبل عام 1954 (صعود عبد الناصر للسُلطة)، التي تزامنت مع ظهور إسطوانات LP ذات الوجـهين التي بإمكانها تسجيل 45 دقيقة كاملة، لعبت هذه الأفلام نفس الدور الذي لعبته فيما بعد شرائط الكاسيت كوسيط مادي مناسب لإصدار ألبوم غنائي ونشره لجمهور عريض، حبكة الأفلام كلها بسيطة، تعتمد على مواقف ضاحكة تحدث للبطل الرئيسي (فريد الأطرش) وللممثلين المساعدين (إسماعيل ياسين وعبد السلام النابلسي بشكل أساسي) يتخلل تلك المواقف طقاطيق واسكتشات راقصة لتنتهي بنجاح البطل في إخراج الاستعراض النهائي بصحبة البطلة المغنية (صباح، نور الهدى) أو البطلة الراقصة (سامية جمال، ليلى الجزائرية).
في بعض استعراضات النهاية (بُساط الريح، بين الشرق والغرب) يجمع فريد الأطرش داخل إطار الاستعراض الواحد ألوانًا موسيقية من كل بلد[1]، لكن هذا الجمع ليس جمعًا تخليقيًا يمزجها جميعًا في بنية واحدة متداخلة ويصنع من الألوان المختلفة لونًا جديدًا، بل هو مجرد تجميع تجاوري لمشاهد متتابعة، لا يربط بينها سوى إنها من تلحين وغناء البطل في "أوبريت" مُرتجل.
في استعراض بُساط الريح (فيلم آخر كذبة) واستعراض غنا العرب (بُلبُل أفندي)، والاستعراضان من كلمات بيرم التونسي، نلمح الصورة المصرية النمطية للمشرق العربي (سوريا ولبنان، العراق) والمغرب العربي (تونس، مراكش) على حد سواء، تزامن الاستعراضان مع حرب فلسطين وتنامي المشاعر العربية تجاد إتحاد ما أو وحدة لا يغلبها غلاب، لكن الاستعراضان يحملان كذلك لونًا ما من "الاستشراق" المصري الخاص تجاه بلاد العرب وتجاه الهوية المصرية نفسها، ففي استعراض بُساط الريح، الذي شارك فريد الأطرش الغناء فيه المطربة عصمت عبد العليم، يسمح البُساط المستعار من ألف ليلة وليلة في إخراج الاستعراض داخل القالب الاستشراقي الألف ليلي، فبغداد "بلاد خيرات بلاد أمجاد" بلاد بدوية يحمي أهلها الأرض بالسيف، أما تونس الخضراء فهي طربوش وعباءة ومركوب ودفوف إيقاعها أقرب للدف النوبي منه لدفوف المغرب العربي، ويختتم الاستعراض بالعودة إلى مصر، الممثلة في فلاحة راقصة، وإن كانت الرقصة ضرورة فنية أملاها وجود الراقصة سامية جمال في فيلم آخر كذبة، فالرقصة نفسها واللباس الفلاحي موجودة في استعراض "غنا العرب" دون وجود بطلة راقصة في الفيلم، الذي يختتم بعرض أزياء نمطية مفترضة لبلاد العرب على خلفية غنائية "غنا العرب كله طرب"
يبدو الاستشراق الذاتي أوضح في استعراض بين الشرق والغرب (كلمات: صالح جودت من فيلم أحبك إنت)، غرض الاستعراض الفني إظهار قدرة الملحن على التلحين باستخدام كافة الألوان الغربية والشرقية، لكن هذه القدرة تتوقف عند التقابل لا التداخل، ما بين غصن (كوبليه) يخضع للون شرقي يغنيه فريد الأطرش وبين غصن آخر يخضع للون الغربي تغنيه عصمت عبد العليم، وفي الاستعراض يظهر البطل بالزي البدوي كما ظهر في اللوحات الاستشراقية عند ديفيد روبرتس وآخرين، ثم يسمع المطرب الشرقي ممثلة الفن الغربي في تلك المُناظرة الفنية "ألحان عراقي ولُبناني" ليست سوى موالًا متمصرًا كل علاقته بالمشرق كلمات مثل "أوف" و "يا بايا" لتحدث المُصالحة التي تختتم الاستعراض والفيلم لأن "الفن دنيا الخلود"، وتحمل هذه المصالحة صدى ما لتصور الانتلجنسيا المصرية في تلك الفترة عن هوية مصر المزيج ما بين الإصالة (الشرقية) والمعاصرة (الغربية)، وهي نظرة مستمرة إلى الآن بشكل أو بآخر.
تستمر الصورة الاستشراقية في استعراض لا يستخدم ثيمة استعراض غناء البلدان، ففي أوبريت فارس الأحلام (كلمات: مأمون الشناوي من فيلم لحن حبي)، تخرج القصة من محيطها الأوروبي إلى قالب ألف ليلي، ويبدو هذا الانتقال منطقيًا لانتماء كل من حكايات ألف ليلة وليلة والحكايات الشعبية الأوروبية مثل سندريلا إلى ماضٍ أسطوري لا تاريخي، هذا الأوبريت أنضج فنيًا من الاستعراضات السابقة، فهنا لا تتجاور الألوان المختلفة بل تتداخل، ويتوزع الأداء الغنائي ما بين الممثلين كلهم، مما يمنح المُلحن حرية إدخال جمل لحنية طريفة مثل الجملة التي تصاحب أداء إسماعيل ياسين "يا بنات اسمعوا وعوا وعوا"، ينتهي الأوبريت بغناء ثنائي ما بين البطل الأمير وبين حبيبته الفقيرة، في الأغنية الأخيرة يستخدم فريد الأطرش أسلوبه المُمَيَز والمُمَيِز لهذه الفترة، حيث يؤدي موالًا لا هو بالمصري ولا هو بالشامي، فهو الشامي المُتَمصر كما تتخيله الصورة المصرية النمطية التي يمكن اعتبارها نوعًا من الاستشراق المصري الخاص ناحية بلاد المشرق العربي[2].
ربما تحمل هذه الأفلام، بألحانها الجميلة وثيماتها المتكررة ملامح خاصة لنظرة ثقافة الجماهير في مصر تجاه الذات والآخر، فالهوية المصرية المركزية تبدو قادرة في هذه الأغاني على تطويع كل الألوان المختلفة سواء كانت شرقية (الشام والعراق والمغرب العربي) أو كانت غربية (سامبو، رومبا ... إلخ)، حتى وإن كانت هذه الألوان موضوعة في صورة نمطية "استشراقية" لتناسب ذوق المتلقي المصري.



[1] كانت "استعراضات البلدان" ثيمة في الكثير من أفلام الفترة واستخدمها المُلحن علي فراج بصورة كوميدية في استعراض "الواصي" (كلمات: فتحي قورة من فيلم فيروز هانم)، واستمرت هذه الثيمة ليستخدمها فيما بعد المُلحن منير مراد في قلبي يا غاوي خمس قارات من فيلم مطاردة غرامية، وفي "قلبي يا غاوي خمس قارات" يضع  منير مراد رقصة إسبانية لمجرد استعراض قدرته على استعارة جمل لحنية شعبية إسبانية كما يتخيلها الذوق المصري دون وجود أي دور لإسبانية في الفيلم.
[2] استمر هذا اللون فيما بعد في كثير من ألحان الرحبانية، وعلى الرغم إن المشروع الرحباني يقوم في جزء منه على صياغة هوية موسيقية "لُبنانية" مقابل المركزية المصرية، فإن هذه الهوية الموسيقية مُصاغة عن طريق نظرة المركز المصري نفسه وتنميطه للشام بصورة عامة والموسيقا اللبنانية بصورة خاصة.