الأربعاء، 20 مارس 2013

الثورة والجدران


الثورة والجدران

فيالشهر الرابع من العام الثاني للثورة المصرية (أبريل 2012)، يتفق جمع ما على هدم جدار حجري بُني في القصر العيني، أصل متأخرًا كعادتي، تقودني الصدفة للوقوف على الطرف الأيسر من كابل كهربي مربوط بإحدى حجارة الجدار، أمامي مباشرة، لا يفصلنا سوى حد وهمي من سواد الكابل فتاة لم أرها من قبل، ألحظ إن يديّ مجاورتان ليديها على نفس الخط المتخيل، أتذكر أنها فتاة فانسحب للخلف، فيما بعد سأرى تلك الفتاة مرة أخرى، دون أن أفكر حتى في إلقاء السلام عليها.
ربما لم تكن العلة في الجدار الحجري، المتجسد القائم بالفعل، الذي حاولنا هدمه سويًا، ربما كانت العلة في جدار آخر، واحد من جدران عديدة متخيلة بنيناها لتفصل ما بيننا، يكتب غوستاف لانداور عن الدولة، أو النظام(السستم بحسب خطاب الرفاق في مجموع راديكال بيروت) كشرط، كحالة جمعية، فالدولة/النظام/السستم، بحسب لانداور، هي نحن، نحاول هدمها ونحن نبنيها في الوقت ذاته.
الجدار الأول: ممنوع الاقتراب أو التصوير:
ربما لن ينس المشاركون في انتفاضة يناير، التي أطاحت بالجنرال العجوز مبارك من على كرسي الحكم وبدأت الثورة المصرية، مشهد نزول الجيش إلى الشارع للأبد، في السادسة من مساء عاصفة الثامن والعشرين من يناير 2011، يأمر الجنرال جيشه بالنزول للوقوف كجدار عازل بين دولته وبين الثورة التي كانت في مهدها.
نزل الجنود لكنهم لم يتعاملوا طبقًا للتصورات الكلاسيكية المكتوبة في تاريخ الثورات، لم ينشق الجنود والضباط عن قيادتهم، لم يتآخوا مع الثوار ويخلعوا ملابسهم الرسمية لينضموا لصفوف الثورة، حتى التنحي سيظل الجنود ومركباتهم العسكرية جدارًا وهميًا حول الميدان، سيحول الزي الرسمي الكاكي الميدان إلى منطقة لها جدران شفافة لكنها عازلة، إلى مستنبت زجاجي ينبت فيه نبتٌ تحت المراقبة والاختبار.
يكتب مارتن هيدغر عن الزي الرسمي الموحد والغرام به كمحاولة من العائشين في العالم المتشظي لتلمس صورة واحدة متناسقة، يخلق الزي الموحد Uniform وحدة النسق Uniformity يخلقها كجدار ذي لون واحد، كاكي يرتدي بيادات، الكثيرون الذين سخروا من خطاب شفيق عن البونبون لم يدركوا أنهم يجلسون في صوبة ذات جدران زجاجية بوضع أشبه بالبونبون المغلف، سيُبنى هذا الجدار عبر الاختلاف في الزي والدرجة، سيكون الهتاف "الجيش والشعب إيد واحدة"، حيث يقدم الجيش باني وحامي الجدار على الشعب العائش في الجدار، وبعد التنحي سيهدم الجيش هذا الجدار على من تبقى من الشعب وخرج عن نص الاتساق الموحد بصحبة موسيقى تصويرية من هتافات "الشعب يريد إخلاء الميدان".
الجدار الثاني: ويسألونك عن الاحتجاجات قل هي فئوية:
قبل التنحي مباشرة، تنطلق شرارة الاحتجاجات العمالية، العامل ذلك الكائن المجرد في كتابات اليسار التقليدية، وبسبب من هذا التجريد نفسه، يمارس احتجاجه المعيشي على حذر، هو يعرف جيدًا إن صاحب العمل قادر على طرده في لحظة، يعرف جيدًا أن عيشه يقطع بجرة قلم، ويعرف جيدًا أن الأفندية الذين جردوه لن ينفعوه.
بعد التنحي، يهتف الجمع للعمل، الجمع الذين اعتبروا بصورة أو بأخرى أن غاية الثورة رحيل البقعة السوداء التي تشوه صورة المثال، الجمع الذي أنتج الكيتش القائل إن الثورة تبني وتهدأ، سينشق العمال عن الجمع، سيخرجون عن الجسد الثوري الموحد، سيبني حولهم جدار عازل، قوامه الاختلاف في الطبقة، الطبقة التي لا تستطيع أن تجوع فترة أطول، فيصمها الباقون بالفئوية.
الجدار الثالث: تعال نهدم الصلبان:
أثناء استنبات النبات في صوبته الزجاجية، في الاعتصام الأول السابق على التنحي، كيتش الثورة بوصفه النفي المطلق للخراء وفخرها الأزلي، تنتشر الصور، معتصمون يصلون وحولهم جدارٌ وهمي، جدار عليه صلبان منقوشة على الرسغ.
قبل أن تتم الثورة شهرها الأول سيهدم البعض هذا الجدار في دهشور، الثورة التي لم تكسر ثنائية الدين، لا تستطيع أن تحمي جدران مكان للتعبد، لا تستطيع أن تحمي مبنى كنيسة، لأنها تغاضت عن شيء هام جدًا لتبرز مثالها، لتر نفسها خالية من الخراء مفعمة بطهرانية المثال، صدرت صورة الجدار الوهمي من الصلبان التي تحمي صلاة المسلمين، دون أن تدري أنها تعاود بناء جدار الفصل بين أصحاب الدينين مرة أخرى.
في أكتوبر 2011 سيهدم الجدار الأول الكاكي الجدار الثالث المكون من أجساد حاملي الصلبان على الرسغ، سيهدمه لأن الجدار يعزل النبات ويُسهل اقتلاعه.
الجدار الرابع: يا حادي العيس رفقًا بالقوارير:
لكني انسحبت سريعًا يومها، خشيت وأنا أشارك مع يديها النسويتين هدم الجدار الحجري أن أمسهما، التحرش تهمة جاهزة إذا حدث هذا التماس العفوي، والثورة لتنف عن نفسها فعل الحب، مارست جدارًا عازلًا بين النساء والرجال داخلها، لم تعِ الثورة أهمية كسر هذا الجدار، زادته عبر حمائية الذكور على النساء وإبعادهن عن محيط الاشتباكات.
في الثامن من مارس 2011، في صبيحة هدم جدران كنيسة دهشور، سيكسر حياء ونفس بعض القوارير في ميدان التحرير، ستكون تلك الحادثة العنف الجنسي الظاهر الأول ضد القوارير، ليعاد بناء جدران النوع الجنسي عبر ألف حاجز وحاجز، النساء معزولات خائفات على سلامتهن الجسدية، لا من قتل بل من إهانة وامتهان، ستنسى الثورة وهي تنفي عن نفسها تهمة المعاشرة الجماعية في الميدان أن تهدم جدار الفصل النوعي بين رجل وامرأة، ستكرسه عبر مليون شكل وشكل.
في نوفمبر 2011، في اشتباكات شارع محمد محمود ستدفع النساء بعيدًا فهن لسن جديرات بالمواجهة المباشرة مع جدران السلطة، سيدفعن بعيدًا لحمايتهن ثم سيتم نفي مشاركتهن في الاشتباكات، وبالتالي نفي الرتبة الثورية الكيتشية الصف الأول عنهن، من قبل من نفس من قاموا بدفعهن بعيدًا بدعوى حمايتهن.
السلطة بوصفها جدران عازلة:
لا يلبس الإمبراطور ملابسه، لكن شعبه لا  يلحظ ذلك، يتغزل الجميع في ملابس الإمبراطور حتى تقول طفلة أن الإمبراطور عاريًا، تكسر كلمات الطفلة الجدار الوهمي للسلطة ببساطة وأصالة غير مصطنعة، هكذا يحكي لنا هانز كريستيان أندرسن.
كيف بنى الاعتصام الأول منابره، في الأول من فبراير عشية خطاب "لا أنتوي"، يقف علاء الأسواني على رصيف هارديز، ذات الموقع الذي ستبنى فيه المنصة الرئيسية، ليفند مزاعم الجنرال العجوز ووعوده، على الرصيف لا يفصله عن المستمعين سوى السور الحديدي للرصيف، يبنى جدارٌ وهمي لسلطة الخطاب، جدار شفاف مثل الكلمة، لكنه حقيقيٌ مثل حقيقية حائط المسرح الأرسطي الرابع الفاصل بين الجمهور والممثلين.
كيف تخيل المحكومون حكامهم قبل التصوير والرسم، لنتصور الأمر، الوالي/السلطان/الخديوي في قلعة الجبل، حوله جدار حقيقي، "قصر الوالي طبعًا عالي"، يصدر الفرمانات النازلة من علٍ على رؤوس المحكومين، بعد التصوير ينزل الحاكم لهم، يسكن في مساكنهم عبر صورته، لكنه يزل خلف جدارٍ لا يمس، ولا يرى إلا عبر وسيط، الجدار، جدار القصر، جدار الحرس، جدار المنصة حتى وهو يفتح جاكت البدلة قائلاً "أنا مش لابس واقي" يظل هناك جدار من سلطة الحكم بينه وبين من يروه.
الجدران أكثر عمقًا وأصالة من جدران القصر، تنتج عبر كل ثنائية، الجيش أو الشعب، العامل أو الناشط، المسلم أو المسيحي، الرجل أو المرأة، لا يمكن تصور الجدار دون تصور ثنائية ما ما بين داخل الجدار وخارجه، ما بين أمامه وخلفه.
من الجدار الحجري إلى السور النباتي:
سكننا سويًا، وهدمنا ما بيننا من جدران، لنحل محلها أسوار من نباتات وورود وأزهار، ونهدي بعضنا من ورود السور النباتي، الحاجز سيصبح جزءًا من صداقتنا المتخيلة القائمة على المساواة.
تلك صورة متخيلة، رومانسية لمدينة من مدن القصص المصورة، إنها مدينة البط، التي انعكس فيها حلم البشر في بناء يوتوبيا ما، مدينة البط شفافة بلا جدران، إلا جدار المال، خزانة عم دهب، هي الجدار الأكثر عزلاً فيها القائم أمام الجميع، لا عصابة القناع فقط، بل أمام ابن أخيه بطوط أيضًا.
لنتصور الثورة كمدينة متخيلة، في لحظة ذورة الاشتباك، الشبيهة بذورة الحب، في يوم الثامن والعشرين من يناير، لنتخيل كيف سقطت الجدارن مرة واحدة، سقطت دون أن تُسقط كاملة، لأن الثورة لم تقرأ خرائها جيدًا، ولم تع كيف تهدم الجدران العازلة بين خلايا جسدها.
الجدران معادلة غير مرئية ما بين ضعف السلطة/النظام/ السستم وقوته، تزيد وتنقص لكنها دون استمرارية هدمها، ستظل قائمة ومتجددة.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق