الأحد، 22 ديسمبر 2013

ليلة الموت

لَيلةُ المَوْتِ[1]

أمشي وأمشي
أصاحب نفسي وأصحبها
ويهمس لي عابر سبيل " أغمض عينيك
تحت أهدابك شموس تحترق"[2]
فأخفضُ بصري
لكني
أعاودُ الصُراخ
"باخاف مُوْت من الاسفلت"
الأسفلت الأسود، أعمدةُ الإنارة واللمعة الحديدية لقضيبي السكة،
عائدون من الحُسِين
مسحت أمي خدها في مقصورة سيدنا ذات الضوء الأخضر
مسحت على رأسي، مسحت على رأسها
ورأسي رأس طفلٍ صغيرٍ مُرتعب
"لا تقطعوا عضوي الصغير عند فاطمة النبوية"
ثم نرجعُ إلى البيت القديم ورائحة الخشب، بير السلم، بئر الصرف، وقباب نحاسية صغيرة مرصوصة فوق قلل الفخار ومواسير الزَهْر
شمسُ الشتاء ورائحة السمك
والخشب الأخضر في محطة منشية الصدر
تلك ليلة الموت
في الصباح تموت حبيبتي الأولى
في الصباح تموت خالتي
أبكي، رغم أني كنت أفر دائمًا هاربًا منها، حين تقبض على جسدي الصغير في حضنها.




[1] مقطع من نص طويل بعنوان "الخوف من الأسفلت"
[2] "Shut your eyes
There are suns beneath your lids" Louis MacNeice, Perseus

السبت، 21 ديسمبر 2013

القرية المجاورة لفرانتس كافكا (نص واحد وأربع ترجمات)

القرية المجاورة


فرانتس كافكا
ترجمة: ياسر عبد الله

·        الترجمة الأولى (لغة عربية):
اعتاد جدي أن يقول :" الحياة قصيرة بصورة مذهلة، إنها تزحم رأسي الآن بذكرياتها حتى أنني بالكاد أتصور كيف يقرر شاب، مثلاً، ركوب فرسه حتى القرية المجاورة دون خوف – بغض النظر عن الحوادث الأليمة – فحتى مدة الحياة العادية المليئة بالسعادة لا تكفي مثل هذه الرحلة."

·        الترجمة الثانية (عامية مصرية):
كان جدي بيقول دايمًا إن الحياة قصيرة جدًا، لدرجة إنه لما بيرجع يفكر فيها بيستغرب إزاي واحد ممكن يركب حصانه وينوي يسافر من قرية لقرية جنبها، دا حتى الحياة العادية الحلوة، اللي من غير مشاكل أو بلاوي، ما تكفيش الواحد يوصل ويكمل رحلته.

·        الترجمة الثالثة (شعر حر):
اعتاد جدي حديثًا
- ولا أدري إن كان صدقًا
أم أن جدي اعتاد الكذب-
كان يقول "يا بُني
الحياة قصيرة لدرجة تثير العجب
وحين تنتابني أفكار الحياة
وتزاحم عقلي الذكريات والحوادث وصور الحياة
أعجبُ من فارسٍ
يسرج فرسًا وينتوي السفر
من قرية إلى قرية مجاورة
فالحياة الحلوة يا بُني
حتى دون أمراض أو مصائب أو خطب جلل
لا تكفي فارسًا لاتمام رحلته
الحياة الحلوة يا ولدي
لا تكفي فارسًا للوصول إلى قرية مجاورة"

·        الترجمة الرابعة (موال صعيدي أعرج):
كان جدي دايمًا يقول
وكان له في الحياة ألف قول وقول
أنا عشت الدنيا التقيتها قصيرة
قستها بعرضها وقستها بالطول
وبالطول وبالعرض بتجيني أفكار
تملاني زي ما بين السما والأرض
وتزاحم على قلبي واتعجب
كيف يسايس فارس حصانه ويركبه
ويترك بلده وناسه ومذهبه
وينوي يروح بلد جار بلد داره ومركبه
من غير ما يخاف ولا يهاب ولا يرهب
دا حتى الحياة وهي حلوة وصحيحة
وبدون ما تصيبك علة وبدون ما تجيك فضيحة
حتى وهي مليحة  برضه قصيرة ما بتكفيش
تطلع بفرسك وتوصل من جيهة لجيهة.



[1] نشرت أقصوصة "القرية المجاورة" في المجموع القصصي (طبيب القرية) الذي قام كافكا بنشره في عام 1919، تنتمي الأقصوصة إلى النصوص القصيرة جدًا أو المنمنمات التي ميزت مجموع كافكا القصصي الأول (تأملات) المنشور في عام 1913، وتميز بها كافكا كقاص قصير متمكن، وهي الصورة التي أحب أن ينشر نصوصه بها وهو حي، على عكس الروايات التي نشرت كلها بعد موته وبإشراف ماكس برود، ويرجع الفضل لماكس برود في تغييب وتجهيل الرأي العام السائد عن كافكا وتصويره كروائي كابوسي لا كقاص قصير متمكن من ألعابه، ومن رواد المنمنمات أو القصص القصيرة جدًا، يرى بورخس في مقاله عن كافكا وأسلافه إن الأقصوصة تردد صدى معضلة أخيل والسلحفاة، ويراها عبد الغفار مكاوي في (ثورة الشعر الحديث) مشابهة لقصيدة لوركا (أنشوة الفارس) التي تردد جملة "إلى قرطبة أبدًا لن أصل".
* تم التنسيق باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي.

الأربعاء، 18 ديسمبر 2013

مرثية لعابر سبيل

مرثية لعابر سبيل



المرة الأولى التي رأيتُه فيها وافقتْ يوم عيد ميلادي الثلاثين، وذكرى محمد محمود الأولى، (لم يكن السيسي قد عامَ بعدُ على سطح بحر الثَريد كالزَبَد)، التاسع عشر من نوفمبر؛ في ظهيرة يوم خريفي دافئ، جلسَ في الطاولة المجاورة لي في مقهى الحرية، جلسنا محاصرين بين عمودين فيهما مرآتان صدئتان، كان يقوم ويقعد كثيرًا كثيرًا فظننته يرسم نفسه، ربما هو شيء ما في هيئته أو أوراق الرسم التي كان يحملها، حدست إنه فنان ولا بد، من رسمه لنفسه الذي تخيلته ساعتها ومن قيامه وقعوده، كتبت نصًا قصيرًا يشابه الهايكو
عن يساري يرسمُ نفسَهُ
عن يمينِه أكتبَ نفسي
وعن يميني ترسمنا المرآة 
ما أجمل أن يهديك عابرُ سبيلِ نصًا، ما أجمل أن يمنحك درويشٌ تائهٌ لحظةَ كشفٍ لم تكن لتحصل عليها من دونه، يتحدث حكماء الزِن عن لحظة الاستنارة الناتجة عن إدراك حل الكُوَان بحدسك، كان مرآه مشابه للحظة الاستنارة تلك، وعلى مدار الشهر التالي، شهر اشتباكات ذكرى محمد محمود وسيمون بوليڨار والاتحادية، كنت أصدفه كثيرًا وأسمعُ، دون استماعٍ، أحاديثه العابرة مع جرسونات المقاهي واعتذاره عن عدم دفعه الفوري "حق المشاريب".
مضى الشتاء ولم أره، وفي نوبة أرقٍ ربيعية مصحوبة بهوسٍ طفيف قررت إن ذاتي قد تضخمت وصارت تحتل حيز عالمي الخاص وعليّ كسرها، قررت إهداء كتب لأصدقاء افتراضيين، أعرفهم ولا أعرفهم، لأتقاسم معهم ذاتي المتضخمة، فالذات تتضخم حتى تأكل روح الإنسان، كان الكتاب الأول (الفردوس المفقود)، يومها جلسنا سويًا، عمر، الذي صار صديقًا بعد ذلك الإهداء وأنا، نحكي على أنغام أغدًا ألقاك، وأخبرني عمر اسم عابر السبيل وحكايته، بهنسي، فنان تشكيلي، يعاني من آثار آلام الروح مثلنا، ربما قال لي عمر، لست أذكر الآن، أن أبناء بهنسي ماتوا وماتت زوجته، ربما حدثني عمر، لكني لا أذكر.
في اليوم التالي وفي غفوة وجيزة حلمتُ بحكيم شرقي، لم أر له وجهًا لكنه أملي علي حكمة "لتستعد كارماتك عليك أن تكسر لوحة دعائك"، يومها حملت معي كتابًا قديمًا لأهديه لبهنسي، قلت لنفسي إن ظهر بهنسي فالكتاب كتابه، وظهر أمامي لكني خجلتُ، فعلى عكس قناعي الشخصي الذي أرتديه لأصد عني تحرشات الفضوليين المقتحمين عالمي الخاص، أنا شخص خجول ومنطوي لا أستطيعُ اقتحامَ الآخرين أو بدءَ حديثٍ ما، لم أهدِ الكتاب لأحد حتى الآن، ولم أهدِه لبهنسي رغم أني، ليلتها، تخيلتُ عينيه تبتسم لعينيّ.
منذ ذلك الحين لم أرَه، حصلت على كارماتي في اليوم التالي، حب سريع، غامر رغم سرعته وفترته القصيرة، من فتاة لا تدري إلى الآن إنها كانت عاقبتي وأُمنيتي، مر الربيعُ والصيفُ والخريفُ، ومثل كل أنباء الغرباء صادفني خبر مَوْت بهنسي، شريدًا درويشًا وحيدًا في موجة البرد القارص، مثل الخواجة لامبو الحزين مات بهنسي، غالبتُ دمعتي لعابرِ السبيلِ الذي أهداني لحظتيّ كشف واستنارة، غالبتُ دمعتي وأنا لا أبكي على الغرباء، بعد أن نشّف الأقربون دمعي، غالبتُ دمعتي فغَلَبَتني وغَلَّبَتني لأني أحببت هذا الدرويش الغريب.
ربما يأتيني الحكيم الشرقي الليلة في غفوة أو في صحوة ليقول لي "لا تحرموا عابري السبيل هداياكم فعما قريب يأخذهم الموت". 

الأحد، 15 ديسمبر 2013

انطباعات عن العِمارة گي ديبور

انطباعات عن العِمارة
ترجمة: ياسر عبد الله

1
مشكلة العِمارة ليست في رؤيتها من الخارج أو في الحياة داخلها، بل في العلاقة الجدلية بين ما هو داخلي-خارجي، على مستوى العِمران (شوارع-منازل) وعلى مستوى المنزل (داخلي-خارجي).
2
تحدد كل واجهات المنزل "مساحة فارغة" وظيفتها اللعب على التناقض فتح - غلق.
3
اقم مدينة كاملة لتمارس الحب فيها مع فتاة وحيدة لبضعة أيام.
4
يقلب مفهوم "حجرة الشارع" (عند هـ . أُ.)[1] التفرقة الوهمية ما بين الأوساط المفتوحة والمغلقة، فالوسط المغلق ذاته يصب في الوسط المفتوح (الذي بدوره يرسم حدود الأوساط المغلقة).

أمستردام، 29 مايو (أيار) – 2 يونيو (حزيران) 1959



أدين باكتشاف النص إلى الصديق حسين الحاج.
ترجمة عن الإنگليزية.
* تم تنسيق النص باستخدام الخط الأميري الصادر حسب رخصة المشاع الإبداعي.
** في النص العربي تقوم الگاف الفارسية مقام حرف الـ G أو الجيم القاهرية.
[1] هار أودِيانز Har Oudejans:  معماري هولندي انضم للأممية المواقفية في عام 1959 وطُرد في العام التالي لموافقته على بناء كنيسة.

الثلاثاء، 21 مايو 2013

عن صلاح جاهين والاحتفاء بـ(الحياة)


عن صلاح جاهين والاحتفاء بـ(الحياة)

أحب أعيش ولو في الغابات
أصحي كما ولدتني أمي و ابات
طائر .. حوان.. حشرة .. بشر ..بس أعيش
محلا الحياة.. حتي في هيئة نبات

بهذه الرباعية يغني جاهين للـ(حياة)، إنه يعشقها ويقدسها حيثما كانت حتى ولو كانت في هيئة نبات يهز فروعه فقط دون أن يتحرك من مكان، يحتفي جاهين بـ (الحياة) لكن أي (حياة) تلك التي يحتفي بها ؟
لنتخيل حياة جاهين تنزاح قيد أنملة عن موضعها وقت كتابة الرباعية، في الستينات وهو الشاعر الغنائي الأشهر المحتفى به، تنتظم حياته في رتابة مطمئنة ودعة وراحة تجلب معها أحداث منطقية وعكارات منطقية كذلك، تخلو حياته من مفاجآت كافكاوية غير سارة، وقت كتابة الرباعية لا يخشى الشاعر المغني من دخول فردين عليه الغرفة وهو بملابس النوم مثل يوسف ك في المحاكمة، لا يخشى انزلاق كلمة عابرة من لا وعيه المرتبك عبر حاجز وعيه الصارم المهندم المنظم الذي يحتفظ له بهيئته الاجتماعية ويحافظ على علاقاته المجتمعية القائمة، لنتخيل الشاعر المغني وقت كتابة الرباعية وهو لا مطمئن، لا يعرف إن كانت ستنشر أم لا، لنتخيله غير محتفى به في سائر البناء الاجتماعي القائم، لنتخيله صوتًا أكثر فرادة ومفارقة عن تلك السهولة العادية حد الابتذال التي يفهمه بها الجميع، لنتخيله وقبل كتابة هذه الرباعية رفضت له مئة رباعية أخرى، سيتوقف القلم (أحب أعيش) ويتساءل عندها أي (عيشة) تلك إن كنت أكتب مئة رباعية لا يفهمها أحد ولن يفهمها أحد، لكن الشاعر المغني لم يعانِ كل ذلك، كان يكتب وهو موقن بالنشر والاحتفاء والأجر في مجلة صباح الخير.
لو كانت (الحياة) هكذا، رتيبة مطمئنة تدعو للدعة والسكينة والراحة فيمكنك الاحتفاء بها، وتخيلها في الغابات والجزر والشجر الوارف ظله الرامي بثمر ويحلو في أيكه السمر، فالرباعية بمدخلها ومنتهاها تهيء جوًا دراميًا يستدعي إلى الذاكرة المشاهد التي رآها المتلقي الستيني في دعة وراحة في سينما صيفية تهب فيها النسائم العليلة غير الملوثة بعوادم السيارات وغاز فريون التكييفات، سيقرأ المتلقي (الغابات) ليستدعي في الذاكرة طرزان وحبيباته الشقراوات، ورقصات هونولولو، الشجرة المقصودة شجرة عملاقة لها فروع وأغضان وثمار، تلاعب القرود أغصانها وتلاعب هي القرود وتعتبرها حيواناتها الأليفة، لكن لو كانت (الحياة) غير (الحياة)، لو كان جاهين لا يتمتع بالدعة المطمئنة والرتابة المنظمة، لو كان مثل السارد الرئيس في كل قصص محمد حافظ رجب يخشى العبور من بولاق إلى إمبابة مرورًا بالزمالك حتى لا يفاجئ بالكمساري المشوه والقزم الأعمى الذي يدخل في أذنه كما كتب في كائنات براد الشاي المغلي، لو كان جاهين وقت كتابة الرباعية مثل عبد الحميد الديب، حائطَا مهدمًا كتب عليه "هنا أيها المزنوق طرطر"، فأي نبات كانت تنتجه خيالاته الشعرية الغنائية، لننس الغابات والشجر الوارف ظله، لنتخيل شجرة وحيدة يتيمة رماها عمال البلدية في انتظار زيارة نائب المحافظ التي لم تأتِ أبدًا، ولنتخيل هذه الشجرة على كورنيش الأسكندرية، لأنها المحافظة التي يحتفى فيها بنائب المحافظ ولا يذكر لها محافظًا، (محلا الحياة في هيئة نبات) وماذا لو كان هذا النبات تلك الشجرة اليتيمة القائمة على كورنيش البحر في نهار تموزي قائظ، كل علاقتها بالماء العذب علاقة انتظار، (محلا الحياة في هيئة نبات) لكن الشجرة اليتيمة لا تعرف طراوة الماء إلا عندما يمر بها عابر سبيل ليلي، سكران خارج من بار الشيخ علي، ليطرطر على جذعها، عندها يقف النبات المتغزل في حياته حائرًا هل يشكر المطرطر الذي رواه أم يشعر بإهانة الطرطرة.
وما المشكلة ؟ من حق صلاح جاهين، الشاعر المغني للنظام الاجتماعي القائم في الستينات الاحتفاء بـ(الحياة)، الحياة كما عاشها في الستينات، في دعة مطمئنة ورتابة منتظمة تخلو من المفاجآت اللاسارة، لكن الرباعية لا تؤخذ الآن كذلك، لا تفهم الآن أنها مجرد احتفاء شاعر مغني مبسوط ب(حياته) التي لا يعاني فيها، ولا يقيم وقت كتابتها في الواحات، ولا يخشى دخول المباحث العامة بيته في أي وقت، ويسمعه زعيم الأمة (جمال عبد الناصر)، فالشاعر الغنائي المحتفى به شاعر القبيلة المغني، لا القبيلة الصغيرة المضحكة في القصص المصورة "آستريكس وأوبليكس"، لكن القبيلة/الدولة، مثل هوميروس وبحره الإيامبي الملحمي، يردد البشر المتحفون بشاعر القبيلة/الدولة جاهين هذه الرباعية وغيرها من الرباعيات كل صباح، بوصفة خلاصة حكمة الأقدار والسنين والأحياء والميتين، لا مجرد تعبير شاعر مغني عن رضائه بعيشته وحياته المطمئنة الخالية من المنغصات اللامنطقية، (الحياة) هنا تفهم بصورة مختلفة، حين يردد الآن المحتفون بشاعر القبيلة/الدولة الغنائي تلك الرباعية يتحدثون عن (الحياة) بالمفهوم البيولوجي الأكثر ابتذالًا، لا بما عناه الشاعر المغني من احتفائه ب(حياته) اللطيفة التي كان يعيشها في الستينات كجزء مهم ومؤثر ورئيس في بنية الثقافة السائدة وقتها، الاحتفاء ب(الحياة) يخرج عن مجرد احتفاء برتابة حياة موظفي الستينات السعيدة، رتابة الموظفين الذين يقبضون ولا يسألون ولا يتساءلون، ليكتسب معنى ميتافيزيقي عن الاحتفاء بأي (حياة) وليدخل في باب التفاؤليات المعتادة اعتياد الرداءة، لتخرج الرباعية من (محلا الحياة)، حياة الشاعر المغني المطمئنة، إلى ما أحلى الحياة بمفهوم جماعات (صناع الحياة) ومريدي التنمية البشرية، المتفائلين دومًا دون أدنى معنى ودون أي فهم.
لو كانت (الحياة) رتيبة مطمئنة منتظمة تتمتع بدعة وراحة وتخلو من مفاجآت لا منطقية كافكاوية ستحلو ولو في صورة نبات، أما لو كانت غير ذلك فسيكون النبات مجرد شجرة قائمة على كورنيش الأسكندرية لا تطول زيارة نائب المحافظ ولا ماء الري، تنتظر فقط عابر سبيل شريد سكران خارج من بار الشيخ علي ليرويها بطرطرته. 

السبت، 4 مايو 2013

عزيزي السيد سميث عميل النظام


عزيزي السيد سميث عميل النظام

في الأسبوع الثاني من اعتصام التحرير الأول (أيقونة ما قبل تولي المجلس العسكري إدارة شئون البلاد) التقيت أحد الصحفيين العاملين في جريدة المصري اليوم وفي أثناء الدردشة قلت له "مش ناويين تقلبوا مجدي الجلاد بقى" وكان رده هزة كتف وجملة من قبيل "مجدي الجلاد ما بيتدخلش في سياسة التحرير" أو بمعنى آخر "الصحفي راضي ورئيس التحرير راضي مالك إنت بقى ومالنا يا قاضي"، كان ذلك في الأسبوع الثاني من الاعتصام بعد خناقة الجمل حين اكتشف الميدان فجأة أن للبلد دستور يخشون من فراغه، كان هذا والثورة "لسه في الميدان"، الميدان الذي لم تغادره أبدًا وماتت عنده.

الرد الطبيعي بهز الأكتاف وجملة من قبيل نظام الجريدة أو سياسة التحرير كانت هي الرد المعتاد لأي دردشة من قبلي ألمح فيها إلى ضرورة تثوير المؤسسات الثقافية أو الصحافية، بالنسبة للكثيرين كانت الثورة في الميدان يذهبون لها كل يوم لكنهم بعد ذلك يرجعون إلى المؤسسة العاملين بها، يتبعون سياساتها ويكتبون بلغتها، لكنهم (ثوريون) والسر ؟ "إنهم بيروحوا الميدان"، يذهبون للثورة لكن خارج الميدان يذهبون ويدعمون النظام، لكن في بعض الأحيان يصنعون حسابًا افتراضيًا يعيشون فيه كـ (ثوريين) على الفيس بوك أو تويتر، ثوريون يستخدمون أجهزة النظام ليعملون، لا ليختطفوها لكن لتختطفهم (انظر détournement).

ظل هذا هو السائد حتى يومنا هذا، لو قلت لأحد الأصدقاء الآن عن عمله في الشروق التي صارت بوقًا نظاميًا لقال لي "علينا أن لا نغادر مواقعنا ونظل نناضل من الداخل"، لكنه في الحقيقة لا يناضل لا هو ولا غيره، لا يملك الاعتراض على جملة مثل مناهضي الاخوان التي بدأت الشروق في استخدامها، هو وأمثاله يحافظون على مكياج ما لهذه الجريدة أو تلك لتظل جريدة مختلفة ليست كبوق النظام الحرية والعدالة، لتظل محافظة على بعض الاتزان الوهمي، يرسم عمرو سليم فيها ضد الاخوان بجانب مقال البوق الاخواني فهمي هويدي، ولا يملك الصحافيون فيها الاعتراض على جملة مستخدمة أو مقال مكتوب، سيرد الصحافيون "الصحافة مش شغالة كدا انت مش عارف القواعد"، لا يا عزيزي السيد سميث أنا أعرف القواعد جيدًا، هذه القواعد هي النظام/السستم/المصفوفة وأنت تطيعها، لا تعمل القواعد من خلال مجلس الإدارة لكن تعمل من خلال العملاء مثلك يا سيد سميث، تعمل بزرع فيروساتها في كل مكان وقبولها على إنها قواعد منطقية مسلم بها.

عزيزي السيد سميث أنت عميل للنظام الذي تخدعني وتقول أنك تقاومه، أنت عميل له لا تستطيع الاستغناء عن القروش القليلة التي تقبضها وانت تغني معي في لحظات سكرك في البارات "وان جعنا شبعنا بتتقضى ما نبعش الكلمة بميت فضة"، عزيزي السيد سميث أنت عميل للنظام، حتى عندما تُنشئ مؤسسة (بديلة) فتعمل من خلال قواعد نفس النظام ولا تتمرد، عزيزي السيد سميث أنت عميل وأنا لا أحب العملاء.

السبت، 20 أبريل 2013

تدريبات على ضمير الغياب


تدريبات على ضمير الغياب

- قبل أن يحب يفكر في احتياجه قبل أن يفكر فيما يمنحه.
- ألعطاء دون مقابل؟
- ربما
- ذلك عبث، العطاء والمنح معادلة ذات اتجاهين، قبل أن يحب يفكر فيما يمنحه ويحتاجه، يعرف جيدًا قدر ما يمنحه، وقدر ما باستطاعته أن يمنحه، ولا يحتاج سوى لمسة بالمقابل، هو مينيمالي حتى الثمالة، يحتاج فجأة أن تقول له إني متيمة بمقام الكرد (سيموت، ويعرف ذلك جيدًا، وهو يغني آهة من مقام الكرد، ربما كانت آهة لسيد درويش).
- يبدو أن طقس القتل لم يكتمل، حتى بتغيير الضمير.
- القتل ميلاد، طقس القتل يعني أن يغمس غمد الأنا في هيّ الغياب، عندها يموت الأنا.
- إذًا؟
- سيمنح الأنا كله وينتظر همسات مينيمالية لا تُسمع ولن يحكِ عنها، عليها التقاطها.

الخميس، 21 مارس 2013

أحبك - ماريو بِنِديتي


أحبك
ماريو بِنِديتي

يداك هما مسي
تذكرتي اليومية
أحبك لأجل يديك
تعملان من أجل العدالة

لو أني أحبك فذلك لأنك أنت
حبي، شِركي، وكل شيء
في الطريق ذراعٌ بذراع
نحن أكثر بكثير من مجرد إثنين

عيناك رقيتي
ضد يوم ملعون
أحبك من أجل نظرتك
التي ترى وتغرس المستقبل

فمك لك ولي
فمك لا يكذب
أحبك لأجل فمك
يعرف كيف يهتف ثائرًا

لو أني أحبك فذلك لأنك أنت
حبي، شِركي، وكل شيء
في الطريق ذراعٌ بذراع
نحن أكثر بكثير من مجرد إثنين

ولأجل وجهك النقي
ولأجل خطوتك الهائمة
ولأجل بكائك من أجل العالم
لأنك من البشر الذين أحبهم

ولأن الحب ليس هالة
أو حكاية رمزية
ولأننا زوجان
يعرفان أنهما ليسا وحدهما

أحبك في فردوسي
وأحكي أنه في بلدي المثال
يحيا البشر سعداء
دون إنتظار أذن أو سماح

لو أني أحبك فذلك لأنك أنت
حبي، شِركي، وكل شيء
وفي الطريق ذراعٌ بذراع
نحن أكثر بكثير من مجرد إثنين.

ترجمها إلى الإنجليزية:  نينا سيرانو.
ترجمها عن الإنجليزية: ياسر عبد الله.

هايكو - ماريو بِنِديتي


هايكو
ماريو بِنِديتي

كم أود رؤية
الأشياء كلها من بعيد
لكن بصحبتك
*
منذ العهد القديم
السماء والعاري
يمارسان الخطيئة معًا
*
غموض بالإجماع
يبقى قنديل وحيد
يسأل المساعدة
*
في النهاية
الموت مجرد علامة
إنه كان هناك حياة
*
وحده الخفاش
يفهم العالم
لكن بالمقلوب
*
في العقل
الشكوك الوحيدة التي تدخل
تلك التي تملك المفاتيح
*
حين جمعت معًا
ليالي أرقي الكاملة
رحت في النوم

ترجمها إلى الإنجليزية : كارلوس ريِس.
ترجمها عن الإنجليزية : ياسر عبد الله.

يوتوبيات - ماريو بِنِديتي


يوتوبيات

كيف لي أن أؤمن / قال الرجل
أن اليوتوبيات لم تعد هناك

كيف لي أن أؤمن
أن الأمل ذكرى
أن المتعة محض شيء حزين

كيف لي أن أؤمن / قال الرجل
أن الكون مجرد هباء
حتى لو كان حقيقيًا
أن الموت صمت
حتى لو كان حقيقيًا

كيف لي أن أؤمن
أن الأفق هو الحدود
أن البحر لا أحد
أن الليل لا شيء

كيف لي أن أؤمن / قال الرجل
أن جسدك / فتاة
هو لاشيء أكثر مما أستطيع لمسه
أو أن حبك
ذلك الحب البعيد الذي تبقيه لي
ليس أكثر من جَلاء عينيك
أو سَكِينة يديك

كيف لي أن أؤمن / فتاة جنوبية
أنكِ محض ما أرى
أو أَمَس أو أَلج

كيف لي أن أؤمن/ قال الرجل
أن اليوتوبيا لم تعد موجودة
لو أنكِ / فتاة حلوة
جريئة/ أبدية
لو أنكِ / أنتِ يوتوبياي.

ترجمة : ياسر عبد الله (عن الإنجليزية)

الأربعاء، 20 مارس 2013

الثورة والجدران


الثورة والجدران

فيالشهر الرابع من العام الثاني للثورة المصرية (أبريل 2012)، يتفق جمع ما على هدم جدار حجري بُني في القصر العيني، أصل متأخرًا كعادتي، تقودني الصدفة للوقوف على الطرف الأيسر من كابل كهربي مربوط بإحدى حجارة الجدار، أمامي مباشرة، لا يفصلنا سوى حد وهمي من سواد الكابل فتاة لم أرها من قبل، ألحظ إن يديّ مجاورتان ليديها على نفس الخط المتخيل، أتذكر أنها فتاة فانسحب للخلف، فيما بعد سأرى تلك الفتاة مرة أخرى، دون أن أفكر حتى في إلقاء السلام عليها.
ربما لم تكن العلة في الجدار الحجري، المتجسد القائم بالفعل، الذي حاولنا هدمه سويًا، ربما كانت العلة في جدار آخر، واحد من جدران عديدة متخيلة بنيناها لتفصل ما بيننا، يكتب غوستاف لانداور عن الدولة، أو النظام(السستم بحسب خطاب الرفاق في مجموع راديكال بيروت) كشرط، كحالة جمعية، فالدولة/النظام/السستم، بحسب لانداور، هي نحن، نحاول هدمها ونحن نبنيها في الوقت ذاته.
الجدار الأول: ممنوع الاقتراب أو التصوير:
ربما لن ينس المشاركون في انتفاضة يناير، التي أطاحت بالجنرال العجوز مبارك من على كرسي الحكم وبدأت الثورة المصرية، مشهد نزول الجيش إلى الشارع للأبد، في السادسة من مساء عاصفة الثامن والعشرين من يناير 2011، يأمر الجنرال جيشه بالنزول للوقوف كجدار عازل بين دولته وبين الثورة التي كانت في مهدها.
نزل الجنود لكنهم لم يتعاملوا طبقًا للتصورات الكلاسيكية المكتوبة في تاريخ الثورات، لم ينشق الجنود والضباط عن قيادتهم، لم يتآخوا مع الثوار ويخلعوا ملابسهم الرسمية لينضموا لصفوف الثورة، حتى التنحي سيظل الجنود ومركباتهم العسكرية جدارًا وهميًا حول الميدان، سيحول الزي الرسمي الكاكي الميدان إلى منطقة لها جدران شفافة لكنها عازلة، إلى مستنبت زجاجي ينبت فيه نبتٌ تحت المراقبة والاختبار.
يكتب مارتن هيدغر عن الزي الرسمي الموحد والغرام به كمحاولة من العائشين في العالم المتشظي لتلمس صورة واحدة متناسقة، يخلق الزي الموحد Uniform وحدة النسق Uniformity يخلقها كجدار ذي لون واحد، كاكي يرتدي بيادات، الكثيرون الذين سخروا من خطاب شفيق عن البونبون لم يدركوا أنهم يجلسون في صوبة ذات جدران زجاجية بوضع أشبه بالبونبون المغلف، سيُبنى هذا الجدار عبر الاختلاف في الزي والدرجة، سيكون الهتاف "الجيش والشعب إيد واحدة"، حيث يقدم الجيش باني وحامي الجدار على الشعب العائش في الجدار، وبعد التنحي سيهدم الجيش هذا الجدار على من تبقى من الشعب وخرج عن نص الاتساق الموحد بصحبة موسيقى تصويرية من هتافات "الشعب يريد إخلاء الميدان".
الجدار الثاني: ويسألونك عن الاحتجاجات قل هي فئوية:
قبل التنحي مباشرة، تنطلق شرارة الاحتجاجات العمالية، العامل ذلك الكائن المجرد في كتابات اليسار التقليدية، وبسبب من هذا التجريد نفسه، يمارس احتجاجه المعيشي على حذر، هو يعرف جيدًا إن صاحب العمل قادر على طرده في لحظة، يعرف جيدًا أن عيشه يقطع بجرة قلم، ويعرف جيدًا أن الأفندية الذين جردوه لن ينفعوه.
بعد التنحي، يهتف الجمع للعمل، الجمع الذين اعتبروا بصورة أو بأخرى أن غاية الثورة رحيل البقعة السوداء التي تشوه صورة المثال، الجمع الذي أنتج الكيتش القائل إن الثورة تبني وتهدأ، سينشق العمال عن الجمع، سيخرجون عن الجسد الثوري الموحد، سيبني حولهم جدار عازل، قوامه الاختلاف في الطبقة، الطبقة التي لا تستطيع أن تجوع فترة أطول، فيصمها الباقون بالفئوية.
الجدار الثالث: تعال نهدم الصلبان:
أثناء استنبات النبات في صوبته الزجاجية، في الاعتصام الأول السابق على التنحي، كيتش الثورة بوصفه النفي المطلق للخراء وفخرها الأزلي، تنتشر الصور، معتصمون يصلون وحولهم جدارٌ وهمي، جدار عليه صلبان منقوشة على الرسغ.
قبل أن تتم الثورة شهرها الأول سيهدم البعض هذا الجدار في دهشور، الثورة التي لم تكسر ثنائية الدين، لا تستطيع أن تحمي جدران مكان للتعبد، لا تستطيع أن تحمي مبنى كنيسة، لأنها تغاضت عن شيء هام جدًا لتبرز مثالها، لتر نفسها خالية من الخراء مفعمة بطهرانية المثال، صدرت صورة الجدار الوهمي من الصلبان التي تحمي صلاة المسلمين، دون أن تدري أنها تعاود بناء جدار الفصل بين أصحاب الدينين مرة أخرى.
في أكتوبر 2011 سيهدم الجدار الأول الكاكي الجدار الثالث المكون من أجساد حاملي الصلبان على الرسغ، سيهدمه لأن الجدار يعزل النبات ويُسهل اقتلاعه.
الجدار الرابع: يا حادي العيس رفقًا بالقوارير:
لكني انسحبت سريعًا يومها، خشيت وأنا أشارك مع يديها النسويتين هدم الجدار الحجري أن أمسهما، التحرش تهمة جاهزة إذا حدث هذا التماس العفوي، والثورة لتنف عن نفسها فعل الحب، مارست جدارًا عازلًا بين النساء والرجال داخلها، لم تعِ الثورة أهمية كسر هذا الجدار، زادته عبر حمائية الذكور على النساء وإبعادهن عن محيط الاشتباكات.
في الثامن من مارس 2011، في صبيحة هدم جدران كنيسة دهشور، سيكسر حياء ونفس بعض القوارير في ميدان التحرير، ستكون تلك الحادثة العنف الجنسي الظاهر الأول ضد القوارير، ليعاد بناء جدران النوع الجنسي عبر ألف حاجز وحاجز، النساء معزولات خائفات على سلامتهن الجسدية، لا من قتل بل من إهانة وامتهان، ستنسى الثورة وهي تنفي عن نفسها تهمة المعاشرة الجماعية في الميدان أن تهدم جدار الفصل النوعي بين رجل وامرأة، ستكرسه عبر مليون شكل وشكل.
في نوفمبر 2011، في اشتباكات شارع محمد محمود ستدفع النساء بعيدًا فهن لسن جديرات بالمواجهة المباشرة مع جدران السلطة، سيدفعن بعيدًا لحمايتهن ثم سيتم نفي مشاركتهن في الاشتباكات، وبالتالي نفي الرتبة الثورية الكيتشية الصف الأول عنهن، من قبل من نفس من قاموا بدفعهن بعيدًا بدعوى حمايتهن.
السلطة بوصفها جدران عازلة:
لا يلبس الإمبراطور ملابسه، لكن شعبه لا  يلحظ ذلك، يتغزل الجميع في ملابس الإمبراطور حتى تقول طفلة أن الإمبراطور عاريًا، تكسر كلمات الطفلة الجدار الوهمي للسلطة ببساطة وأصالة غير مصطنعة، هكذا يحكي لنا هانز كريستيان أندرسن.
كيف بنى الاعتصام الأول منابره، في الأول من فبراير عشية خطاب "لا أنتوي"، يقف علاء الأسواني على رصيف هارديز، ذات الموقع الذي ستبنى فيه المنصة الرئيسية، ليفند مزاعم الجنرال العجوز ووعوده، على الرصيف لا يفصله عن المستمعين سوى السور الحديدي للرصيف، يبنى جدارٌ وهمي لسلطة الخطاب، جدار شفاف مثل الكلمة، لكنه حقيقيٌ مثل حقيقية حائط المسرح الأرسطي الرابع الفاصل بين الجمهور والممثلين.
كيف تخيل المحكومون حكامهم قبل التصوير والرسم، لنتصور الأمر، الوالي/السلطان/الخديوي في قلعة الجبل، حوله جدار حقيقي، "قصر الوالي طبعًا عالي"، يصدر الفرمانات النازلة من علٍ على رؤوس المحكومين، بعد التصوير ينزل الحاكم لهم، يسكن في مساكنهم عبر صورته، لكنه يزل خلف جدارٍ لا يمس، ولا يرى إلا عبر وسيط، الجدار، جدار القصر، جدار الحرس، جدار المنصة حتى وهو يفتح جاكت البدلة قائلاً "أنا مش لابس واقي" يظل هناك جدار من سلطة الحكم بينه وبين من يروه.
الجدران أكثر عمقًا وأصالة من جدران القصر، تنتج عبر كل ثنائية، الجيش أو الشعب، العامل أو الناشط، المسلم أو المسيحي، الرجل أو المرأة، لا يمكن تصور الجدار دون تصور ثنائية ما ما بين داخل الجدار وخارجه، ما بين أمامه وخلفه.
من الجدار الحجري إلى السور النباتي:
سكننا سويًا، وهدمنا ما بيننا من جدران، لنحل محلها أسوار من نباتات وورود وأزهار، ونهدي بعضنا من ورود السور النباتي، الحاجز سيصبح جزءًا من صداقتنا المتخيلة القائمة على المساواة.
تلك صورة متخيلة، رومانسية لمدينة من مدن القصص المصورة، إنها مدينة البط، التي انعكس فيها حلم البشر في بناء يوتوبيا ما، مدينة البط شفافة بلا جدران، إلا جدار المال، خزانة عم دهب، هي الجدار الأكثر عزلاً فيها القائم أمام الجميع، لا عصابة القناع فقط، بل أمام ابن أخيه بطوط أيضًا.
لنتصور الثورة كمدينة متخيلة، في لحظة ذورة الاشتباك، الشبيهة بذورة الحب، في يوم الثامن والعشرين من يناير، لنتخيل كيف سقطت الجدارن مرة واحدة، سقطت دون أن تُسقط كاملة، لأن الثورة لم تقرأ خرائها جيدًا، ولم تع كيف تهدم الجدران العازلة بين خلايا جسدها.
الجدران معادلة غير مرئية ما بين ضعف السلطة/النظام/ السستم وقوته، تزيد وتنقص لكنها دون استمرارية هدمها، ستظل قائمة ومتجددة.



الأربعاء، 13 مارس 2013

الثورة بين المنبر والمبولة


الثورة بين المنبر والمبولة
المنبر والمبولة :
ثلاث مشاهد لا تفصلها إلا سويعات قليلة تحدث في مكان واحد في يوم واحد، الأربعاء 9 فبراير 2011، أثناء اعتصام التحرير الأول (النفي المطلق لخراء الثورة كلها).
مشهد أول : على منصة الإذاعة الشعبية أمام مقهى وادي النيل يمسك الرفيق سامح عبود بمكبر الصوت ليلقِ كلمة مرتجلة عن عدم كفاية الاعتصام كفعل ثوري وضرورة تطويره عبر لجان شعبية منتشرة في كل الجمهورية تمارس السلطة المباشرة، تحت المنصة يقاطعه شخص، بعنف يصرخ قائلاً "مفيش حاجة هتحصل غير لما مبارك .. يمشي يمشي يمشي"، ويبدأ في ارتجال هتاف، لا أفهم سر عداء الرجل المفاجئ تجاه سامح، أسكته بصوتٍ عالٍ، بعد انتهاء المشهد أدرك المسألة، لقد جرح سامح بكلمته عن عدم كفاية الفعل كرامته الثورية، لا يتصور الرجل أن للاعتصام (الثورة بحسب التعبير المتداول وقتها) خراء ومساوئ.
مشهد ثاني: على منصة التحرير الرئيسة، منصة هارديز كما يعرفها الجميع، تقف فتاة وتصرخ بصوتٍ عالٍ "الميدان دا اتقتل فيه ناس مش جايين ترقصوا وتغنوا فيه"، أسمعها وأعلق داخلي بجملة إيما غولدمان "إن لم أستطع الرقص فتلك ليست ثورتي"، لكن تلك الفتاة لم تسمعني ولم تهتم، كل ما هم قولها وعقلها أن تنفي أن للثورة فعل آخر غير خلق المثال، تعلو الفتاة المنصة لتعلي من قيمة المثال، المثال هو النفي المطلق للخراء والسوء والفضلات، المثال لا يحتمل أن يكون به أشياء مبتذلة عادية كالرقص والغناء والسمر، لا يحتمل سوى الصعود على المنبر وتكريس المثال ونفي الخراء.
مشهد ثالث: في الجزيرة الوسطى أمام الكعكة الحجرية، حمامات مرتجلة مصنوعة من خشب ربما كان من بقايا أخشاب المنصة، لا يقع بعيدًا عن المنصات/المنابر التي تعلي من قيمة المثال وتنفي الخراء، في الشكل الأولي للدولة يبدأ البشر ببناء المسكن الخيمة والمنبر المنصة والحمام مقر تجمع الخراء.
في المسجد/الكنيسة/المعبد يعتلي الخطيب/الأب/الحبر المنبر ليخطب عن المثال، عن الفضيلة ونفي الخطيئة والخراء، في أحد أطراف المسجد/الكنيسة/المعبد يقع الحمام، النفي المطلق للفضيلة والمنتج الأساسي للخراء، وبينهما يجلس جموع المصلين/ الشعب.
في الميدان يعتلي الخطباء المنصة/المنبر ليتحدثوا عن الثورة المثال التي لا تقع فيها الخطيئة ولا تنتج الخراء، في طرف الميدان يصنع المعتصمون الحمامات ليمارسوا فيها الخراء، بين المنبر والمبولة تقع خيام الشعب الثائر.
الكيتش يفسر الأشياء:
في لحظة تتقارب السماء والأرض، يقع المنبر في المبولة، يتجادل ابن ستالين الزعيم المفدى، القائد الأسطورة والضرورة، بخصوص الخراء في حمامات المعسكرات النازية، يقول له الضابط الألماني أن عليه أن يمسح خراءه، فيسقط عالم المثال، يلقي ابن ستالين بنفسه على الأسلاك الشائكة المكهربة ويموت (ميلان كونديرا – خفة الوجود التي لاتُحتمل).
لا يقتل ابن ستالين نفسه عند وقوعه في الأسر، يقتل نفسه عند اضطراره بالقوة للتعرف على خرائه الخاص، المثال يجرحه الخراء، والنظريات التي تعتمد على تجريد المثال تجرده من كل خراء ممكن، يكتب كونديرا "كلمة كيتش في الأساس هي نفي مطلق للخراء" ويكتب أيضًا في مقال حول كلماته المفضلة حول حاجة الإنسان الكيتش للتعرف على نفسه في مرآة الكذب المجملة، حاجته لتجريد نفسه عن من حوله ونفي أي خراء محتمل.
صدمة الإنسان الأول حين اكتشف خراءه، حين اكتشف أن التفاحة التي أخرجته من فردوسه تتحول إلى قطعة بنية اسطوانية رخوة، وحين اكتشف إن الطعام الشهي يتحول إلى خراء داخله، الإنسان هو المنتج الوحيد للخراء الإنساني، لذا ينفيه دائمًا ويسعى إلى دفنه مثل القطط، وينفي أن يكون هذا الشيء صدر عنه، لا ينتج الخراء الإنساني إلا عن الإنسان، الطعام جميل المنظر ما لم يمسه فم بشري.
المناضل المثال لا يذهب إلى المبولة:
في الأسبوع الثاني من اعتصام التحرير الأول يخرج علينا صاحب الفيل في المنديل قائلاً "الميدان طبل وزمر وعلاقات جنسية كاملة"، أتوقف عند الطبل والزمر لأجد المنطق المحرك نفسه لخطيبة منصة هارديز، لا تصلح ثورة المثال بطبل وزمر ورقص.
النفي اللاحق لعبارة صاحب حاحا وتفاحة يقع في نفي الفعل نفسه، لا يمارس الثوار الجنس، وليس لديهم أعضاء جنسية تنتج الخراء، لنتخيل المناضل المثال غيفارا بعد خطبة عصماء يجلس على قاعدة الحمام ليخري أو يقف على المبولة مشلحًا بنطاله يتبول، لنتخيل الزعيم الكاريزما جمال عبد الناصر بعد خطبة تأميم القناة مصابًا بالاسهال، أو بعد خطبة هنحارب هنحارب خالعًا ملابسه، عاريًا ينادي على أم خالد "ارفعي رجليكي يا مزة"، الجنس مثل الخراء فعل سري لا يصلح تخيل الثائر المثالي وهو يمارسه، لا عجب أننا نكشف في الجنس عن أعضاء لا نكشفها إلا أثناء فعل الخراء أو أثناء نفي الخراء والاغتسال منه.
الثائر المثال كنفي مطلق للخراء:
بعد التنحي وإنجاز مهمة المثال كان علينا الاتحاد جميعًا بالمثال، من هنا تم توزيع بنود المثال، "ابدأ بنفسك .. احلف .. مش هأرمي زبالة تاني في الشارع .. مش هأعاكس .. مش .. مش"، أقسم أن أصبح مثالًا، فالثائر الحق لا يتبول ولا يعاكس، فالثائر المثال لا يملك أعضاءً جنسية تخرج فضلات وخراء.
تسقط الثورة في فخ مثالها، في رغبة البشر المكونين لجسدها المتخيل في شيطنة الآخر ونفي خرائهم الشخصي، تتحول إلى فعل داخلي، ابدأ بنفسك لا تشكل مشكلة إلا حين تتحول إلى فعلٍ ضمائري سيسقط في فخ التدين المؤسسي، طالما لم تنجز ثورة إصلاح ديني تعتبر إن الضمير شأن شخصي وخاص مثله مثل الخراء والجنس، لكي تبدأ بنفسك عليك أن تتعالى على خرائك، لا أن تعالجه، النفي المطلق للشيء يعني دفنه وإنكاره، ينكر الثائر المثال كل مساوئ فعله، ليس بالميدان تحرش هناك إرهاب جنسي من فلول النظام، يجيب الثائر المثال، لم يدخن أي معتصم حشيش داخل الخيم، يجيب الثائر المثال، لا يمارس الثائر الجنس خارج الزواج التقليدي، يقسم الثائر المثال، لا يشرب الثائر الخمر، (فالخمر منتجة للقيء الأخ التوأم للخراء)، يسقط الثائر المثال في فخ المثال، ومن أجل المثال ينفي كل ما عداه، يضع الواقع على سرير بروكرست اللص الأغريقي الذي كان يقطع أرجل الناس إن لم تناسب سريره، على الواقع أن يكون مثالي، فالمجتمع عظيم ويكفي إزاحة مبارك الخراء لكي نعيش في الفردوس، والشعب طيب ولا يجب سوى إزاحة الإخوان ليخرج المصريون أجمل ما فيهم بعد تطهرهم من خراء الإخوان.
يوم التاسع من فبراير 2011 لم أكن قد عرفت بعد مصطلح  "ميكروفاشية" المستخدم من قبل دولوز وغواتاري، لكني حين عدت إلى منزلي كتبت تأملاتي حول فاشية محتملة، ستنشأ من رغبة الثائرين الرومانسيين في نفي خرائهم ودفنه.

على الثورة الاعتراف بخرائها لتخرج من فخ فاشية المثال.